قلم الناس: متابعة
يعكس “إعلان نواكشوط” الصادر عن المنتدى البرلماني الاقتصادي المغربي الموريتاني في دورته الأولى تحولا لافتا في مقاربة البلدين للتعاون الاقتصادي، ويؤكد بجلاء تنامي الوعي المشترك بالإمكانات الجغرافية والاقتصادية التي تتيحها الواجهة الأطلسية لموريتانيا والمغرب، خاصة في ضوء التغيرات الجيوسياسية التي تعرفها المنطقة الإفريقية. فقد شكل البعد الأطلسي محورًا رئيسيًا في البيان الختامي للمنتدى، ليس فقط من حيث كونه محددًا جغرافيًا، بل بوصفه رافعة استراتيجية واعدة لإقامة بنية تحتية مينائية متقدمة تتيح ربطًا أكثر فعالية مع عمق الساحل الإفريقي، بما يعزز من دينامية المبادلات القارية والدولية، ويدفع في اتجاه بناء فضاء اقتصادي متكامل على المدى المتوسط والبعيد.
ويكشف البيان عن رؤية شمولية تنسجم مع متطلبات التنمية المستدامة وتعدد القطاعات ذات الأولوية، حيث لم يقتصر الطرح على البنية التحتية والموانئ، بل امتد ليشمل القطاعات الحيوية المرتبطة بالأمن الغذائي كالفلاحة وتربية الماشية، وهي مجالات تمتلك فيها كل من موريتانيا والمغرب مؤهلات هائلة، سواء من حيث الأراضي والقطعان والمياه، أو من حيث رأس المال البشري والمعارف التقليدية. غير أن البيان لم يكتف بتعداد هذه المؤهلات، بل ربط تطويرها بتبني أساليب عصرية للإنتاج والاستغلال، وبدعم الابتكار في مجالات الري وتثمين المخصبات الزراعية، إلى جانب التركيز على عنصر التكوين بوصفه أداة استراتيجية لرفع المردودية وضمان الاستدامة.
ويُفهم من السياق العام للبيان أن التعاون المغربي الموريتاني لم يعد مقتصرًا على تبادل النوايا السياسية أو الخطابات الدبلوماسية، بل انتقل إلى مستوى بناء آليات ملموسة لتفعيل المشاريع المشتركة، وتثبيت التنسيق المؤسساتي، من خلال الدعوة إلى إنشاء تعاونيات وجمعيات إنتاج، وتبادل البعثات المهنية، وتوسيع فرص التكوين المستمر، بما يعزز من الالتقائية القطاعية والاندماج في سلاسل القيمة الإقليمية. كما يندرج ضمن هذه الرؤية تبني نهج تشاركي في البحث والتطوير، خاصة في مجالات التحسين الوراثي للماشية، والوقاية البيطرية، ومعالجة الأوبئة، وهي قضايا حيوية تتقاطع فيها أبعاد الصحة العامة مع متطلبات السوق ومعايير التصدير.
أما على المستوى البحري، فقد أبرز الإعلان ما تزخر به السواحل الأطلسية للبلدين من ثروات سمكية، واعتبرها مجالًا للتعاون لا يقل أهمية عن الزراعة أو المواشي، داعيًا إلى إرساء مشاريع استغلال مشترك ذات مردودية اقتصادية وقدرة تنافسية في السوق الدولية. ويمثل هذا التوجه تأكيدًا على البعد الاستراتيجي للواجهة البحرية الأطلسية، ليس فقط كبوابة للأسواق، ولكن كأرضية خصبة للاستثمار المشترك في الصناعات الغذائية والتجهيزات البحرية والخدمات اللوجستية.
ولعل أحد أهم أوجه البيان يكمن في تأكيده المتكرر على محورية التكوين ونقل التكنولوجيا في بناء تعاون مستدام بين البلدين، من خلال فتح المعاهد والمراكز أمام المهنيين، وإطلاق برامج مشتركة للتكوين المهني والعالي، وتبادل الخبرات في المجالات الإدارية والتدبيرية، خاصة تلك المتعلقة ببيئة الاستثمار ومواكبة المبادرات الخاصة. ويشير هذا التوجه إلى وعي متزايد لدى الجانبين بأن الرهان الحقيقي لا يكمن فقط في توسيع مجالات التعاون، بل في بناء قاعدة بشرية مؤهلة تضمن استمرارية المشاريع ومرونتها في مواجهة التحديات.
كما يُسجل البيان في طياته وعياً خاصًا بأهمية تيسير تنقل الأشخاص والبضائع، من أجل تعزيز الاندماج الاقتصادي وتسهيل الولوج المتبادل إلى الأسواق، وهو ما يشكل نقطة ارتكاز محورية في إنجاح أي مشروع تكاملي ثنائي أو إقليمي، ويجعل من تطوير البنى التحتية والتشريعات ذات الصلة جزءاً من الأجندة الاقتصادية المشتركة.
وتتوج هذه الرؤية المتكاملة بتأكيد الجانبين على أن الموقع الاستراتيجي للبلدين، والروابط التاريخية والثقافية بين شعبيهما، تؤهلهما للعب دور مزدوج كمركز إنتاج وتسويق نحو إفريقيا وأوروبا والأمريكتين، وهو طموح يعكس إدراكًا جديدًا لدور الواجهة الأطلسية في إعادة رسم خرائط المبادلات، وموقع المغرب وموريتانيا داخلها، في ظل التنافس الدولي المتصاعد على القارة الإفريقية. ولهذا الغرض، أكد الطرفان على ضرورة إحداث آلية لتتبع وتقييم مخرجات المنتدى، وهو مؤشر قوي على الانتقال من مرحلة إعلان النوايا إلى مرحلة تنفيذ السياسات.
إرسال تعليق