صحافة العُهر

بقلم/ ذ. فؤاد السعدي

ﻳﺒﺪﻭ من ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ أن ﻓﻴﻪ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺠﺮﻳﺢ والافتراء والقدح، ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺼﻮﺭ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎ عاشته الصحافة الإلكترونية من بهتان أثناء عملية إنقاذ الطفل ريان رحمة الله عليه بقرية “إغران” نواحي مدينة شفشاون. وقد يتبادر الى البعض ان الوصف فيه شيء من الخجل، لكن ما وجدت الكلمات في القاموس إلا لتُستخدم في مواقعها. ﻭﻗﺒﻞ أن ندخل في صلب الموضوع لا بأس أن نتوقف قليلا عند نعت “ﺍﻟﻌُﻬﺮ” الذي وُصِفتْ به الصحافة في العنوان، والتي تدل على البغاء والفسق والفجور، أي أن “ﺍﻟﻌﺎﻫﺮﺓ” ﻫﻲ ﻣﻦ ﺗُبيح ﺟﺴﺪﻫﺎ بمقابل مادي، ﻭ”ﺍﻟﻌﺎﻫﺮ” ﻫﻮ ﻣﻦ ﻳﺄﺗﻲ ﻓﻌﻼ فحشا ﻣﻤﺎﺛﻼ. والعُهر هو ممارسة الفُجر قصد بلوغ غاية معينة قد تكون إما مالا أو شُهرة. فكما للعاهرة قنوات خاصة تعلن من خلالها رغبتها في تعاطي الفجور لكسب المال، كذلك الشأن بالنسبة لبعض المواقع الإلكترونية التي تبُث محتواها النثن والعفن باستغلال مأسي الناس لتحقيق ارباح كبيرة من خلال رفع نسبة المشاهدات وعدد الليكات.

فمنذ عقود وصحافتنا معقودٌ في ناصيتها الخير، تقدم ما تستطيع طرحه للمتتبع رغم قلّة الإمكانات المادية وشح الكوادر البشرية التي كان يحذوها على الدوام شغف المهنة وحبها وقدسيتها قبل أي مقابل كيفما كان. كانت الصحافة وقتها شرف، ونبل ونضال من أجل الكرامة، ومهنة نبيلة وراقية، بل إنسانية لأنها كانت صوت من لا صوت له، وعبرها  كان ويزال يسلط الضوء على قضايا الناس، وهمومهم التي يحترقون بها، ومآسيهم، ومعاناتهم وأشكال التهميش الذي يطالهم. كانت أيضا جبهة مفتوحة للدفاع عن حرية الرأي والتعبير، وصوتا مدويا لتحقيق الديمقراطية والتقدم والعدالة ضدا عن الاستبداد والشمولية والقمع. اليوم بدأت تأخذ استراحات متقطعة بعد أن فقدت الرعيل الأول من رجالاتها الذين تخطفهم الموت وغيبتهم الدنيا عنا، رحلوا وتركوا وراءهم سوقا مفتوحة للإعلام يدخلها أي عابر سبيل تقطعت به السبل، أو أضاع فرصة ولوج مهنة أخرى، فاختار الصحافة لأنها كانت الاختيار الأخير أو لأنه لم يحقق حظه في مهنة أخرى، فمنح لنفسه فرصة التجريب لتأسيس مواقع إلكترونية تباع وتشترى فيها سمعة الصحافة وشرفها، بينما تقف المؤسسات الوصية في ظل هذا التردي الإعلامي المفضوح موقف المتفرج تارة والشاجب تارة أخرى من خلال بيانات محتشمة لا تسمن ولا تغني من جوع تدعو الى احترام ميثاق أخلاقيات المهنة.

لقد كشفت قضية ريان أن ممارسة الصحافة عموما والإلكترونيةخصوصا باتت تعرف تجاوزات خطيرة أفقدتها المصداقية والنزاهة والعفة. كما أن أخلاقيات المهنة، التي أصبحت في اصطدام دائم مع صحافة الإرتزاق والانتهازية، لم تعد قادرة على الحفاظ على المكتسبات التي حققتها “صحافة المقاومة”، والتي راكمتها على مدى سنوات بعد الاستقلال، حيث كانت تعكس هموم وانشغالات المواطن بكل مصداقية وموضوعية ونزاهة، بعيدة عن أسلوب الابتزاز والتملق والارتزاق. فالصحافة بكل تلوينتها مهنة المتاعب ولكنها ليست على الهامش، يختارها من ضل التوجيه وأضاع بوصلته، وكأنها دكان، أو محطة استراحة، بل هي بكل بساطة “مهنة شريفة” تحكمها قواعد ومبادئ وضوابط جعلتها تتحول إلى سلطة، قبل أن تمتد إليها أيادي الفساد والمفسدين في المجال. هذا الوضع المخجل للصحافة الإلكترونية جعلتها تعرف أزمة على مستوى الخطاب وعلى مستوى الممارسة وأن المقاربة الزجرية لم ولن تكون هي الحل الأنسب.

اليوم أصحاب العقد والحل ممن أُوكلت لهم مسؤولية الوصاية على الصحافة ملزمون بالوقوف أمام ذواتهم والجهر بحقيقة عجزهم على صون شرف المهنة وقدسيتها، ومطالبون في ذات الوقت بالاعتراف بأن المسؤولية التي سارعوا لبلوغها كانت أكبر مما كانوا يعتقدون، وأن السعي الى خلق مؤسسة مستقلة يوكل إليها تدبير شؤون الصحافة والصحفيين وفق تصورهم وخلفياتهم السياسية كان قمة العبث على اعتبار أنهم لم يضعوا ضمن أولوياتهم هم تنظيم القطاع وضبطه وتقنينه وتنقيته من الدخلاء ومحترفي العهر الصحفي بقدر سعيهم الى الظفر بالمكاسب والمناصب. هي سنوات مرت ونحن نسمع عن تشخيص وضعية الصحافة ببلادنا دون أن نلمس حلولا عملية وواقعية كفيلة بأن تخرجنا من مستنقع وسخ وضعنا فيه مجموعة من أصحاب الضمائر الميتة من مرتزقة الصحافة ممن ماتت فيهم عزة النفس ومفاهيمها، وباعوا المهنة بأبخس الأثمان.

إن ما حدث من تجاوزات مشينة في قضية ريان ليس انتهاكا صارخا لحرية الرأي والتعبير، بل انتهاك للأخلاقيات والقيم الانسانية التي جعلت “العهر” نبراس لبعض الأبواق الفاسدة.