عزيز قنجاع: قراءة في مفهوم كتاب “الشعبوية الخطر الداهم” لحسن أوريد

قلم الناس : متابعة

هو كتاب الشعبوية الخطر الداهم للكاتب حسن اوريد كتاب بطموح ايديولوجي كبير اقل ما يمكن ان يقال عنه انه كتاب حول ملامح “ايديولوجيا عالمية معاصرة، كتاب يحاول وان كان ينفي صفة الايديولوجيا عن موضوع اشتغاله الذي هو الشعبوية الا انه في الاساس حاول ان يمسح مسحا شاملا مجال النظر الايديولوجي لما وصل اليه المستوى السياسي في تمظهراته الخطابية الراهنة على المستوى العالمي .

فالكتاب شمولي لا بسبب شمول الظاهرة فقط، اذ تهم القارات الخمس تقريبا بل بسبب الاستراتيجية التي وضعها الكاتب لكتابه في محاولته لملامسة تمظهرات الشعبوية داخل كل الحركات السياسية الراهنة فالشعبوية، قدر السياسة الراهن والكتاب بذلك جاء موسعا لزاوية نظره ليمسح كل الحركات السياسية الفاعلة على الصعيذ العالمي من اوروبا الى اسيا الوسطى او الاناضول الى امريكا الشمالية وامريكا اللاتينية واسيا والشرق الاوسط وشمال افريقيا والشرق الاقصى هو اذن كتاب موسوعي ابدى صاحبه إلماما قل نظيره بالشان السياسي الدولي، والكتاب لحدود الان هو محاولة رائدة في العالم العربي قل نظيرها وجرأة فكرية كبيرة تنطح لها عالم متعدد المواهب الثقافية له من الرصيد الفكري ما يجعله اهلا لهكذا طموح.

على طول الكتاب لا يقف المؤلف على تعريف محدد للشعبوية فالكتاب يحفل بتعاريف متقاطعة يفرضها عرضا سياق النقاش. فالشعبوية تحضر ظاهرة سياسية من غير متن ايديولوجي تتارجح بين الخطاب والاسلوب من غير مرجعية تنظيرية، والشعبوية كذلك شكل من اشكال الطوباوية من غير مرجعية ايديولوجية تقوم على ممارسات بالاخص، واسلوب بالاساس. تقع الشعبوية في دائرة العاطفة او الوجدان او وباء الحنين كما حددته سفيتلانا بويم “svetlana boym ” التي تقول ان الشعبوية “نداء الجماعات وذاكرة جماعية في العالم المتشظي للقرن العشرين الذي امتزج بطوباوية انتهى بالحنين ودخل العالم القرن الواحد والعشرين وهو بغير طوباوية عدى ميكانيزم دفاع امام تحولات مذهلة واهتزازات تاريخية عميقة”، ليس هناك شعبوية خاصة انما هناك شعبويات تتاثر بالسياق السياسي، و بالسياسة السارية، وبالتاريخ العميق . تبرز تعبيرا عن ازمة، وتضحي عرضا لداء عميق، اذن نحن كلما حاولنا التقدم في فهم الشعبوية تزداد الشعبوية انغلاقا فالشعبوية ليست نسقا او كما وصفها الدكتور اوريد هي سردية نحيلة على خلاف السرديات الدسمة ” شيوعية / اسلامية.

اذا كانت الشعبوية اسلوبا وممارسة فهي بالتالي تميز كل الحركات السياسية باعتبار ان الحركات السياسية هي في ظاهرها اسلوب وممارسة على قاعدة ايديولوجية فكرية تترجم في خط سياسي يحكم الاسلوب والممارسة . اذن فالشعبوية نستنتج هنا هي اسلوب وممارسة دون سند ايديولوجي وتعتاش على هامش الخط السياسي وبالتالي امكانيات حضورها داخل كل توجه سياسي امر قائم. فما هي سمتها ؟. في هذا الباب نقرا عند اوريد ان سمة الشعبوية, طبيعتها السلبية الرافضة، لا تقدم بديلا سوى الوقوف على مثالب واقع الحال، نظرة هلامية للشعب من دون ان تفرز الميكانيزمات التي تعبر عن ارادته وتحقيق رغباته، وذلك باسباغ الفضيلة عليه والقاء اللوم على ماليس هو والتجني على الفئة التي تمسك بالسلطة تؤول الشعبوية الى احضان قائد مخلِّص او رجل الاقدار. فهي حركة تمجد الشعب باسباغ الفضيلة عليه …الخ ، اذ تحاول ان تعيد الاعتبار للممارسة السياسية بالعودة الى الشعب مما يضفي عليها سمة الحركة الديمقراطية الراديكالية إذ تصحح زيغ التمثيل النيابي وفشله وتعيد للشعب سيادته.

لا تصل الشعبوية الى مستوى معاداة العملية الديمقراطية برمتها، مثل المسار الذي اتخدته الفاشية التي  تهزا من الديمقراطية وتعلن العداء لها. فالشعبوية لا تجاهر العداء للديمقراطية بل تزعم التعبير عنها وانقادها ، ولاجل اقامة الفرق بين الفاشية و الشعبوية بعد ان حذر العديد من المفكرين وعلماء السياسة من التماثل القائم بينهما، اذ اعتبر العديد اننا امام ظاهرة فريدة يراها البعض الوجه الجديد للفاشية او متحورا عنها. إذ يخلص اوريد بعد تعريجه على اهم ملامح الفاشية خصوصا الايطالية الى اعتبار ان الفاشية تقوم على ايديولوجية تنطلق من المجتمع وتمثله الاكبر الامة واداته الدولة فهاجس الفاشية ادن هي الامة، اما الشعبوية فهاجسها غير ذلك. هاجس الشعبوية الشعب الذي ينظر اليه في اطار الشعبوية باعتباره جسد والامة روح. تشترك الشعبوية و الفاشية في الملمح السياسي العام. حيث يمتزج الملمحان بالخطاب القومي والممارسة السلطوية والحلم الامبراطوري من خلال دغدغة المشاعر القومية واعادة قراءة التاريخ وتوظيفه ومحورية القائد. اذا كانت هذه الخلاصة هي رصد لنقاط التقاطع و التفارق القائمة بين الشعبوية والفاشية، فان اقامة قسائمsegment  بين الشعبوية كتمظهر للمارسة السياسية اليمينية والاخرى اليسارية فيمكن القول ان الكاتب حسن اوريد يجعل من الازمة المالية لسنة 2008 السنة المحورية في فهم الخطاب الشعبوي المعاصر

فمن التاتشيرية التي أسست لتوجه حثيث يبني مقومات هيمينية جديدة تبنتها الريغانية وجد اليسار نفسه في خضم هذا الامر ينحت لنفسه مكانا ديناميا ميزته ارساء توافق سياسي ما بين الوسط يمين والوسط يسار مع انطوني جيدنز وبعده انطوني بلير، استمر الامر الى ازمة 2008 لتنتعش الاستراتيجية الشعبوية على تكسير التوافق ما بعد سياسي ما بين الوسط يمين والوسط يسار باستراتيجية شعبوية من خلال توجه يتغيى ارساء الديمقراطية الراديكالية. فظهرت بالتالي وعلى اثرها الشعبوية اليسارية كنقد لزيغ النيوليبيرالية حيث يعتبر حسن اوريد ان الشعبوية اليسارية هي رد فعل ضد النيوليبيرالية قائمة في جوهرها على استعداء الاوليغارشية المالية.

في حين انبرت الشعبوية اليمينية معادية التداعيات الاقتصادية والثقافية للعولمة وفي القلب منها مشكلة الهجرة تبنت اثره خطابا معاديا للغير،  تدعو الشعبوية اليمينية الى  نزوع سيادي في مواجهة المؤسسات الدولية اذ  تقبل بالليبيرالية الاقتصادية داخل حدودها وترفضها خارجها ولا يصبح الاقتصاد هاجس الشعبوية بل الهوية ومن خلال الخطاب المعادي للعولمة في شقها الهوياتي تتستر الشعبوية اليمينية عن حكم الاغنياء بتحايل اذ يبدو ظاهرها الزعم الدفاع عن الشعب ضد العولمة وباطنها الاستحواذ على السلطة باسم الشعب، وعموما المفارقة التي تفرزها الشعبوية اليمينية هي ان يخوض الاغنياء غمار السياسة للدفاع عن مصالحهم ومصالح طبقاتهم لكن المفارقة ان يزعموا الدفاع عن الشعب ولتجاوز هذا التناقض تلجأ الى خطاب يتميز بعناصر عدم التورع عن الكذب، البداءة، الاستعداء، الشيطنة، المظلومية كما يمكن الدفاع عن الشيء ونقيضه في نفس الان. وشكل ترامب الصفاء الشعبوي العام للتوجه الشعبوي اليميني.

تستمد شعبوية اليسار و اليمين شرعيتهما كما هو واضح هنا من عجز الديمقراطية التمثيلية في ان تكون المعبرة عن الشعب وهمومه وتطلعاته، كل الهيئات التي من شانها ان تعبر عنه وعن مطامحه من احزاب ونقابات وقيادات اما عاجزة واما انها خدلت الشعب او مخادعة، تزعم ضد ما تؤمن به، وما تجري حياتها عليه. يمارَس الحكم باسم الشعب من دون ان يكون من الامر شيء، اضحى من يمثله صوريون ولذلك يضطر الشعب الى ان يعزف عن المشاركة الانتخابية لانها صورية فتنبري الشعبوية هنا للدعوة لاعادة الامور الى نصابها واعادة الحكم للشعب

Ad image

لا يتوانى حسن اوريد في نقده للشعبوية الاوروبية الى اعتبار كل الحركات السياسية المتولدة بعد ازمة 2008 خارج نسق التداول الحزبي الكلاسيكي يمين يسار وكل الافرازات الحديثة في الممارسة السياسية هي بالضرورة في الكتاب تبدو شعبوية من اسبانيا الى فرنسا الى اوروبا الوسطى الى النموذج الشارح ايطاليا تبدو كل الحركات السياسية و الاعتمالات الجديدة داخل الجسم السياسي الاوروبي شعبوية الهوى و الطباع. نفس الامر ينطبق على شرق اسيا وامريكا اللاتينية باختلاف طفيف في المبدأ اذ تقوم شعبوية امريكا اللاتينية وتقترن بشعور بالاحباط ، اما شعبوية اوروبا فتقوم على الخوف وبالعالم العربي لا تقترن الشعبوية بسقم الديمقراطية ولكنها تضحي غشاء للسلطوية وملطف لها في تحايل يوظف وسائل الدولة وادوات القولبة الايديولوجية .

ان هذه المحاولة في اعطاء نبدة عن الشعبوية كما حضرت بالكتاب قلت لم تأت كفصل خاص بالتعريف عن ماهية الشعبوية بل من خلال قراءة تستوقفها التعريفات المتناثرة على طول الكتاب .

يستوقفنا الكتاب عند مسالة مثيرة للاهتمام وهو محاولة ايجاد تفسيرا لظاهرة الشعبوية في كل من اوروبا وامريكا الشمالية وامريكا اللاتينية من خلال تقصي جينيالوجي لها حيث يعود حسن اوريد للبحث عن الشعبوية واصولها تراجعيا الى تخوم القرن التاسع عشر

Ad image

فنجد ظهور مصطلح الشعبوية  في روسيا في سنوات 1870 الا انها ارتبطت بالاتجاه السلافي ما بين سنة 1830 و1850 وبروز اسم المنظر الكسندر هرزن ، اما في فرنسا فيعود بها اوريد الى فشل كمونة باريس وهزيمة فرنسا امام غريمتها بروسيا 1871حيث ظهر الجنرال جورج بولونجيه بل هو يعود بها الى مرحلة عودة الملكيات والفوضى العارمة التي عرفتها فرنسا بعد 1849 ، وبالولايات المتحدة يعود بها حسن اوريد الى سنوات 1892 وتجربة حزب الشعب الامريكي وبامريكا اللاتينية حيث اطلق على شعبويتها اسم الشعبوية المعززة فتعود اصولها الى بروز الكاوديو القادة المحليين مع بزوغ فجر القرن التاسع عشر كخوان منوي روزاس فالارجنتين و ذييغو بورتاليس في الشيلي والروفيو باريوس والسرجان فولخينيو باتيستا. ما يهمنا هنا هو ان اوريد في نقاشه للشعبوية في هذه البقاع يعود الى اصولها القديمة جدا ثم يتتبع اشكال بروزها حتى الوقت الراهن

لاينطبق نفس الامر حين ينتقل حسن اوريد لنقاش الشعبوية بالعالم العربي حيث كان ممكنا البحث في الجينات الاولية المشكلة للخطاب الشعبوي. ففي العالم العربي يناقش  بزوغ العناصر المكونة للشعبوية لا كجينيالوجيا سياسية ارتبطت بمسارات سياسية مثلها زعماء سياسيون بل كعناصر لواقع مفارق يحتوي في طياته على ارهاصات شعبوية نجملها في تمايز النخبة والنزوع نحو السلطوية والدفع بقومية متمايزة وبالتالي بقي تعاطيه على هذا المستوى سوسيولوجيا وصفيا كما سنرى في حالة المغرب يلم شتات احداث متفرقة في قوالب تفسيرية يضعها ضمن قوالب تعليلية مقبولة وهو ما حرمنا من متعة الحفر الجينيالوجي في مجتمع يمكن القول عنه انه شكل ظاهرة خطابية بامتياز .