ارتفاع الأسعار الجنوني يدخل بيوت العرب.. فهل من حلول؟

تحليل ذ ـ إبراهيم محمد:

يطال التضخم العالمي وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية مستوى معيشة غالبية سكان الدول العربية بقسوة غير مسبوقة منذ عقود. هل تستطيع هذه الدول تجنب الأسوأ مع استمرار التوترات السياسية وغياب تعاون دولي يخفف من حدة المشكلة؟

غلاء الأسعار يفرغ الأسواق من زبائنها كما هو عليه الحال في العراق

تتسارع وتيرة ارتفاع أسعار الأغذية وسلع الاستهلاك اليومي على وقع التوترات السياسية وجائحة كورونا بخطوات غير مسبوقة منذ انهيار الأسواق المالية العالمية أواسط ثمانينات القرن الماضي. في الولايات المتحدة التي تمتلك أكبر اقتصاد في العالم ارتفعت على سبيل المثال أسعار المستهلك خلال الأشهر القليلة الماضية بنسب عالية وزادت على 6 بالمائة خلال أكتوبر/ تشرين الأول 2021.

 

وفي الصين التي عودتنا على معدلات نمو بحدود 9 بالمائة تراجع المعدل إلى أقل من 5 بالمائة إضافة إلى ارتفاع أسعار الجملة بشكل لم تعرفه منذ ربع قرن، إذا وصل إلى 9.5 بالمائة في أغسطس/ آب الماضي. وفي ألمانيا لا يبدو الوضع ورديا إذ ارتفعت أسعار جملة السلع الاستهلاكية اليومية بأكثر من 15 بالمائة خلال أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

وفيما يتعلق بأسعار بعض السلع نُقل عن مكتب الاحصاء المركزي الألماني في فيسبادن أن أسعار المشتقات النفطية حاليا ارتفعت حاليا بحوالي 55 بالمائة مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. أما أسعار الحبوب فارتفعت بنسبة نحو 27 بالمائة. وارتفعت أسعار الخشب بنسبة 48 بالمائة في حين ارتفعت أسعار الحديد والمعادن الأخرى بنسبة زادت على 60 بالمائة. ويبدو الوضع مشابها في مجمل دول مجموعة العشرين التي تشكل 80 بالمائة من الناتج المحلي العالمي.

هل ارتفاع الأسعار مسألة مؤقتة؟

Ad image

في هذه الأثناء يدعي عدد من الخبراء ومراكز اتخاذ القرار أمثال مؤسسة “غولدمان ساكس” العالمية للخدمات المصرفية أن ارتفاع الأسعار الحالي الذي بتنا نلمسه أسبوعيا في أسواق احتياجاتنا اليومية مسألة مؤقتة. ويعتقد هؤلاء أن التغلب على جائحة كورنا سينهي هذه الظاهرة بحيث تنخفض الأسعار وينتهي التضخم الحالي. غير أن الوقائع والمعطيات تخالف هذا الرأي لأسباب من أبرزها نقص العرض من المواد الأولية والوسيطة في الأسواق. ويذهب خبراء أمثال الألماني هينريك مولر إلى حد القول أن “وقائع كثيرة تدل على أن عصر وفرة المواد الأولية ولّى إلى غير رجعة. وذكر مولر في تحليل على موقع “شبيغل أونلاين” تحت عنوان “الآن ندخل حقبة الندرة” أن الأشياء التي لا يمكن إنتاجها في المعامل كالمواد الأولية الطبيعية والأراضي والمياه العذبة الخ تصبح قليلة سنة بعد الأخرى”.

 

ابراهيم محمد: العالم العربي مقبل على مزيد من النقص في الأغذية ومواد البناء

Ad image

أسباب متعددة الأوجه

ومن المعروف أن قلة العرض مقابل زيادة الطلب تؤدي إلى ارتفاع الأسعار. وزاد من حدة هذا الارتفاع خلال جائحة كورونا انقطاع سلاسل التوريد وزيادة تكاليف النقل والتأمينات. ويزيد الطين بلة ارتفاع أسعار الغاز والنفط وحزمات الدعم المالي ومعدلات الفائدة المتدنية وسياسات التيسير الكمي للنقد في الدول الصناعية الغربية وخاصة في الولايات المتحدة التي تطبع المزيد من الدولارات غير المغطاة بالسلع. ولا ننسى أيضا الدور الذي تلعبه التوترات السياسية في ذلك، لاسيما بين المعسكر الغربي وكل من روسيا والصين.

ويصاحب هذه التوترات فرض عقوبات اقتصادية متبادلة والتوجه إلى تخزين السلع بشكل يؤدي إلى زيادة أسعارها. في هذا السياق يتوقع مسح أجراء الاحتياطي الفيدرالي/ البنك المركزي الأمريكي أن يصل معدل ارتفاع الأسعار لمختلف السلع إلى حوالي 6 بالمائة خلال العام المقبل 2022. وفي بلدان الاتحاد الأوروبي والصين تزداد المخاوف من نقص السلع وارتفاع أسعارها.

وقد وصل الأمر بالحكومة الصينية إلى دعوة مواطنيها أوائل شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري إلى تخزين المواد الغذائية تحسبا لحالة الطوارئ المحتملة في ظل جائحة كورونا وارتفاع أسعار الطاقة.

أنا ومن بعدي الطوفان

تهدد معدلات التضخم المرتفعة وارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بتراجع كبير في القوة الشرائية لغالبية سكان الدول الصناعية. وهز الأمر الذي يقود إلى تراجع مستويات المعيشة بنسبة لا تقل عن 25 بالمائة في حال استمر ارتفاع الأسعار خلال الأعوام القليلة القادمة. ومن الواضح أن التوترات السياسية المتصاعدة بين الغرب من جهة وكل من الصين وروسيا من جهة أخرى لا تشير إلى التوجه نحو تعاون دولي يلجم تسارع وتيرة التضخم العالمي الحالي.

التضخم وارتفاع الاسعار يلتهم قيمة العملات ويؤدي إلى تراجع مستوى المعيشة في الدول الصناعية

ومما يعنيه ذلك حسب المحلل الاقتصادي الأمريكي دانيال روس أن “كل دولة ستحاول إيجاد مخرج لها بشكل منفرد وبعيدا عن حسابات واحتياجات الدول الأخرى”. وقال روس لوكالة بلومبيرغ في هذا السياق أنه “من غير المستبعد تحرك الدول الكبرى بشكل جماعي لمواجهة التضخم المرتفع كما حدث أثناء انهيار أسواق المال العالمية عام 1985 عندما اجتمع ممثلوها في نيويورك واتفقوا على ضبط أسواق العملات. أما اليوم فالظروف المحلية لكل دولة لا تسمح لها بالتعاطف مع الدول الأخرى ولا بالتفكير في كيفية مساعدتها”.

نقص الأغذية ومواد البناء في العالم العربي

يطال ارتفاع الأسعار والتضخم جميع السلع التي تستوردها الدول العربية ومن أهمها الأغذية كالقمح والأرز ومواد البناء كالحديد والأخشاب ووسائل النقل والأجهزة الإلكترونية. ومن المعروف أن الدول العربية تستورد المزيد من هذه السلع سنة بعد الأخرى لأسباب تتعلق بتدهور كثير من قطاعات الزراعة وكذلك ندرة الأراضي الزراعية والتصحر وضعف الصناعات التحويلية.

ويؤدي ارتفاع فواتير الاستيراد والأسعار في الدول العربية إلى مزيد من الفقر واللامساواة الاجتماعية وتفاقم عجز موازينها التجارية باستثناء عدة دول نفطية في منطقة الخليج. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن حوالي 7 ملايين شخص دخلوا في فقر مدقع خلال عامي 2020 و2021 في منطقة الشرق الأوسط. وعلى ضوء الجفاف والتغيرات المناخية واشتداد حدة النزاعات على مياه أنهار النيل ودجلة والفرات، فإن العالم العربي سيواجه خلال الفترة القادمة المزيد من الأزمات على صعيد ارتفاع الأسعار وتوفير الأغذية والموارد التي تدعم أمنه الغذائي والمالي. وفي هذا الإطار يتوقع الصندوق ارتفاع مستويات التضخم إلى 13 بالمائة هذه السنة مقارنة مع أكثر من 10 بالمائة خلال العام الماضي.

احتجاجات غاضبة في الجزائر على ارتفاع أسعار المواد الغذائية

هل من حلول؟

 

هنا قد يقول قائل، لكن لا بد من مخرج؟ تعاني الدول العربية منفردة من عدم القدرة على حل هذه المشكلة حتى لو توفرت لدى البعض منها الموارد المالية. ويعود السبب في ذلك إلى أن حلها أو التخفيف من حدتها يتطلب تعاون عربي في مشاريع مشتركة تجمع بين الموارد البشرية والطبيعية والمالية اللازمة لإنجاح هذه المشاريع. ورغم أن مشاريع كهذه مثل مشروع “تحويل السودان إلى سلة غذاء للعالم العربي” طُرحت منذ عقود فإنها في معظمها فشلت أو ما تزال حبرا على ورق في أتون الصراعات والخلافات السياسية التي تشرذم العالم العربي بشكل يذكر بالحقبتين الاستعمارية الغربية والعثمانية.

وفي ظل هذا الوضع الذي يعني المزيد من الخراب الاقتصادي، لا يبقى أمام معظم الدول العربية التي ما تزال تعاني من بعض الاستقرار في الوقت الحاضر سوى استنهاض الموارد المحلية بشكل يحي أساليب العيش والسكن التي كانت سائدة قبل الطفرات النفطية والسياحية التي عرفناها خلال العقود الأربعة الماضية. وفيما عدا ذلك فإن هذه الدول ستشهد المزيد من الاضطرابات والاحتجاجات التي تعصف بالمزيد من الحكومات وسياساتها الاقتصادية.