الذين يعرفون مغرب المرحوم الحسن الثاني الذي انتهى بتقديم نقد ذاتي قوي وصريح عنوانه : “بعد 38 سنة من الحكم فإن البلاد على شفى سكتة قلبية ” ..
الذين عاشوا و“تجرعوا ” مرارات هذا العهد(الذي كان له أيضا بعض ميزات وإيجابيات )، وعايشوا وتابعوا العهد “الجديد”، وتوسلوا إلى منطق التقابل والمقارنة بعقل “دياكروني diachronique ” …لابد أنهم سيستذكرون ويرددون المقولة الدائمة الحياة للفقيد عبد الرحيم بوعبيد “مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس “.
هكذا إذن، وعلى وقع إرث سلبي ضخم على كل المستويات والأصعدة والقطاعات والمجالات انطلق عهد محمد السادس، السلطان/الملك الثالث والعشرين ضمن سلالة العلويين بكثير من الرمزيات الإيجابية المعبرة، التي فتحت طرق سيارة في وجه أمل مغربي آخر وحلم جماعي بمغرب آخر…
لعل أبرزها الاختلاف الجوهري في سرعة وشكل وطبيعة وشخوص و“حداثة” مراسيم توقيع عقد بيعة الملك الجديد، ولو أن عبد الله العروي في كتابه “خواطر الصباح 1999-2007 المغرب المستحب أو مغرب الأماني” يذكر بأن “أول خروج رسمي من القصر إلى مسجد السنة حسب التقاليد العتيقة: اللباس سليماني، العربة عزيزية، والعودة إلى القصر على صهوة جواد أسود كما في لوحة دولاكروا” مضيفا بأن معنى التقليد هو ” ذوبان شخصية الفرد في أمثولة(راموز)قاهرة للزمن منافية للتغيير“.
و مع ذلك ورغم الطابع التقليداني الراسخ لكثير من الطقوس، فقد واصل الملك اختراقاته “التحديثية”، انطلاقا من الاحترام الدائم والدقيق للمواعيد المعلنة لخطبه(المكتوبة دائما )، مع التغير التدريجي في لغتها وموضوعاتها والأسئلة التي تثيرها وصراحتها، مرورا ببلاغ إعلان انفصال الأميرة مريم عن زوجها(و هي سابقة )، إلى تسريح الحريم، وزواج الملك بواحدة من عامة الشعب وإخراجها إلى الحياة العامة، ونزوع الملك المسترسل إلى ملاقاة كل مناطق وفئات وشرائح البلاد، وإقامة الملك بخيمة أثناء زلزال الحسيمة، وإعفاء وزير داخلية العهد الماضي، و إرسال المسؤول الأول عن أمن القصور إلى السجن، والترفع عن متابعة صحافة تجاوزت كل حدود اللباقة واللياقة واتهمت الملك شخصيا بتلقي رشاوى، وإطلاق مسلسل المصالحات الكبرى: الإنصاف والمصالحة، خطاب أجدير، مدونة الأسرة، المفهوم الجديد للسلطة، مشروع الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية للمملكة، الحرص على شفافية ونزاهة أكثر للعمليات الانتخابية(مع تسجيل بأن الخروج عن المنهجية الديمقراطية كان نقطة غير مضيئة في هذه اللوحة التي ظلت لامعة إلى حينه)، الرسالة الملكية إلى المحتفين بذكرى اختفاء عريس الشهداء المهدي بنبركة ..وصولا إلى التجاوب الملكي السريع والعميق مع مطالب النسخة المغربية للربيع “الخريفي” التي انطلقت في ذكرى اليوم الأممي للعدالة الاجتماعية(20 فبراير )، وهو التجاوب الذي أثمر دستورا أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه لاسابق للمغرب به، حتى أنني سمعت شخصيا من أحد أشد المعارضين وهو السي محمد اليازغي “بأنه سعيد لأن الله أحياه ليعيش هذه اللحظة الفارقة في تاريخ المغرب”.
ثم واصل العهد “الجديد ” مسلسل الاستفزاز الإيجابي للضمير والعقل الجمعي المغربي عبر طرح قضايا وأسئلة… الثروة، وفعالية ونجاعة النموذج التنموي المعتمد، والعدالة الاجتماعية والضريبية والمجالية، والإدارة المغربية، والجهوية المتقدمة، واللاتركيز الإداري، وإصلاح الحقل الديني، وأدوار ومهام النخب والأحزاب، ومتانة وفعالية المؤسسات، والهجرة، والتغير المناخي، و مكانة ومستقبل الشباب والنساء، والنموذج التنموي للأقاليم الصحراوية كبديل عن سياسة الريع والامتيازات، وطبيعة وشكل موقعنا وعلاقاتنا بمحيطنا الإقليمي المغاربي، والقاري الإفريقي، والقومي العربي، والدولي الأرومتوسطي والعالمي.
و في كل هذا، وغيره كثير وكثيف ساد الإحساس لدى المتابع الموضوعي، المعتمد على منطق التاريخ لا الأهواء في تقييم الأشياء والحكم عليها..بأن هاجس ووقود تحركات ومبادرات وخطابات المؤسسة الملكية كمؤسسة مركزية في النظام السياسي المغربي، كان وما يزال هو تدارك ما تم هدره من وقت وطاقة وإمكانات، ومحاولة معالجة وردم ما تراكم من اختلالات وتفاوتات، وتصحيح صورة مملكة طالما اهتزت وتلطخت …رغم أن الإمكانيات هي نفسها وذاتها التي كانت .. لكن الإرادات ليست ذات ونفس الإرادات التي سادت.
لقد بدلت المملكة كثير جهد سياسي ودستوري وثقافي وديبلوماسي وحقوقي… جهد رمزي ومادي أثمر ما أثمره من نتائج جعلت البلاد في صورة ووضع وموقع جيوسياسي أفضل بكثير مما كانت عليه بشهادة مؤسسات وهيئات ومختبرات ومنظمات ودول وشخصيات…صديقة وخصمة.
كما بدلت المملكة كثير جهد اقتصادي وتنموي وتجهيزي واستثماري أثمر من بين ما أثمره، قطار فائق السرعة، ومئات الكيلومترات من الطرق السيارة، وميناء متوسطي تنافسي عالميا، وشبكة محطات قطارات رائعة، وشبكة طرامواي مهمة، ومحطات طاقة شمسية هائلة، ومناطق صناعية حديثة لاحتضان المهن الجديدة، ومطارات متجددة، ومدن وجهات تغير وجهها بالكامل نحو الأفضل(الشمال) ووكالات للتهيئة فعالة وناجعة ( بحيرة مارتشيكا، أبو رقراق، الأقاليم الجنوبية، أقاليم الشمال، أقاليم الشرق، الواحات،… )، استثمارات أجنبية متزايدة، وشراكات اقتصادية وتجارية انضافت إلى التقليدية ( إفريقيا، الصين، الهند، أمريكا اللاتينية، روسيا، تركيا، آسيا، ….)، واستراتيجيات قطاعية ومندمجة شاملة( المغرب الأخضر، الإقلاع الصناعي، المغرب الأزرق،…)..
وفي كلا الجهدين …المادي والسياسي، كان الملك حريصا في كل خطبه وأفعاله على القول بأن الغاية المثلى هي تصحيح المسار وتقويم الاختلال وتسريع ورعاية الإصلاح وترشيد التدبير خدمة للمواطن والوطن..
و كان الملك أحرص أيضا في لحظة تقييم سيذكرها التاريخ طويلا على القول بأن المجهود التنموي خصوصا والنموذج التنموي عموما لا تنعكس ثماره على الجميع، في عطف بليغ على سؤال “أين الثروة؟” الذي سبق له طرحه.
لا شك أننا بعيدون عن مغرب صيف 1999، بفعل المجهودات الاستثنائية والمبادرات الخلاقة والأوراش المهيكلة التي انطلقت بمبادرة أو قيادة أو رعاية أو مرافقة من الملك.. ولا شك أننا أبعد ما نكون عن تحقيق حلم وطني كبير تفجر يوم قال المغاربة في ذات الصيف وهم يبكون ملكا رحل ويحيون ويرحبون بملك حل” مات الملك، عاش الملك “.
لقد قطعت البلاد اشواطا معتبرة على درب تأهيل البنيان والمؤسسات والعمران(بالمعنى الخلدوني للكلمة ) …
ولكن شيئا ما وخصاص ما يقول بأن وضع الإنسان ليس على ما يرام..
فبعد قول الملك بحتمية الانكباب على صياغة نموذج آخر للتنمية، وبعد كثير تقارير رسمية ومدنية، وطنية ودولية تناولت واقع الصحة والشغل والبطالة والدخل الفردي والنشاط الاقتصادي ومنسوب الإدماج الاجتماعي والهجرة والتعليم والتكوين والأمية وو الفقر والهشاشة والعدالة الضريبية والتفاوتات والفوارق المجالية والإجتماعية وحال الشباب ومآل النساء ومستقبل الآتي من الأجيال…في ظل عولمة و“كوكلة cocalisation ” الكرة الأرضية بكل عواصفها، بما تستلزمه من تأهيل وتمنيع للعنصر البشري ليحمي نفسه وأوطانه. بعد كل هذه التقارير التي خلصت إلى أن بالمغرب مغربان.
مغرب التيجيفي ومغرب الوحدات الصحية العسكرية الشتوية(و هي أيضا مبادرة ملكية نبيلة ) وبينهما طبقة وسطى تترنح بين هبوط مؤكد وصعود منشود.
فإنه سيكون من المحمود أن تبادر الدولة (بالمعنى الهيكلي المطلق للكلمة ) بقيادة جلالة الملك إلى إعادة ترتيب الأولويات الوطنية، لتأتي مباشرة بعد قضية الوحدة الترابية، المسألة الإجتماعية…أي الإنسان بعد أن أهلنا كثيرا من البنيان.
لقد ورث الملك محمد السادس عن خلفه مغربا نجزم بأنه يعمل وسيعمل على ألا يورث مثله لخلفه ووريث عرشه، بعد عمر طويل إن شاء الله.
عن موقع أشكاين
- قيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
إرسال تعليق