قلم الناس: متابعة
عاش المغرب في الأيام الأخيرة حدثًا مهمًا في مسار تجربته البرلمانية، يتعلّق بحلول ذكرى مرور ستين سنة على إحداث البرلمان بالمملكة، كأهم مؤسسة في الحياة الديمقراطية. ويشكل هذا الحدث الذي تميّز بتلاوة رسالة ملكية، مناسبة للوقوف عند مضامينها ورسائلها، ولا سيما أنّ المؤسسة التشريعية كانت دائمًا حاضرة كفاعل أساسي في قلب التحوّلات الكبرى التي عاشتها بلادنا منذ الاستقلال.
كان المغرب سباقًا لاعتماد التعددية السياسية كخيار استراتيجي بُعيد جلاء الاستعمار، تجسّدت معالمها على وجه الخصوص في إحداث المجلس الوطني الاستشاري سنة 1956، ثم في ظهير الحريات العامة سنة 1958، وفي النظام الأساسي للمملكة سنة 1961، وكذلك في أوّل دستور سنة 1962، هذا في وقت اختارت غالبية دول المنطقة نظام “الحزب الوحيد”.
لم يقتصر خيار التعددية على جانبه السياسي، بل شمل ما هو ديني، ومدني، وثقافي، ولغوي، ما أعطى للتجربة المغربية طابعها المتفرّد.
إنّ ستين سنة من عمر العمل البرلماني أكسبت المؤسسة التشريعية المغربية رصيدًا غنيًا من الممارسة في المجالات المحدّدة لها من قبل الدستور، وجعلتها تتحوّل إلى نموذج ومرجع، انطلاقًا من موقعها التشريعي والرقابي وأدوارها الدبلوماسية، وكذلك من حرصها على مأسسة واحتضان النقاش العمومي والحوار المجتمعي التعدّدي حول القضايا التي تستأثر باهتمام الرأي العام.
البرلمان اليوم يشكل معادلة أساسية في المغرب، أصبحت صلاحياته أكثر قوة بعد المكتسبات الجوهرية والنوعية التي مسّته في دستور 2011، من خلال الاختصاص الحصري في ممارسة السلطة التشريعية في مجال واسع من الموضوعات، وكذلك في آليات مراقبة العمل الحكومي، وتقييم السياسات العمومية كاختصاصٍ جديدٍ انضاف إلى وظائفه الدستورية التقليدية، إضافة إلى هيئات للحكامة جعلها المشرّع الدستوري في خدمة البرلمان، تقدّم له خبرة مؤسساتية تقنية ورأيًا استشاريًا في مواجهة تعقّد وصعوبة صناعة القانون، وتساعده في أداء وظائفه على الوجه الأكمل.
ولطالما كان البرلمان المغربي فاعلًا عبر التاريخ السياسي، وآلية مؤسساتية لترسيخ التجربة المغربية
لكنّنا نعتقد أنّ الرسالة الملكية في هذا الشأن، لم تقف فقط عند التذكير بالمسار التاريخي لمؤسسة البرلمان بمجلسيه، وبالمكانة المتقدّمة التي أضحى يتمتع بها اليوم في ظلّ وثيقة دستورية متقدّمة لقيت إشادة، وبإبراز الأدوار التي قام بها في الدفاع عن القضايا الوطنية والدولية، بل، وهذا هو الأساسي، أنّها سطرت جملة من التحديات والرهانات المنتظرة، بلغة واضحة وشفافة، تشكل في الصميم توجيهات ملزمة للارتقاء بالعمل البرلماني إلى مستوى متقدّم:
ـ ضرورة تغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين على غيرها من الحسابات الحزبية.
ـ تخليق الحياة البرلمانية من خلال إقرار مدونة للأخلاقيات في المؤسسة التشريعية بمجلسيها تكون ذات طابع قانوني ملزم.
تحقيق الانسجام بين ممارسة الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التشاركية.
ـ العمل على الرفع من جودة النخب البرلمانية، خصوصًا، والمنتخبة عمومًا.
ـ تعزيز ولوج النساء والشباب بشكل أكبر إلى المؤسسات التمثيلية.
ـ نشر قيم الديمقراطية وترسيخ دولة القانون، وتكريس ثقافة المشاركة والحوار، وتعزيز الثقة في المؤسسات المنتخبة.
ما فتح أمام البرلمان مجموعة من الوِرَش الإصلاحية تسعى للتنقيب عن نخبٍ جديدة، والرفع من تمثيلية المرأة والشباب، وتخليق الممارسة البرلمانية، وتعزيز ثقافة المشاركة والحوار والثقة في المؤسسات، والتواصل والانفتاح على المجتمع، وهي وِرَش هامة ,يستلزم الانكباب عليها بجدية لتجويد العمل البرلماني كعماد للممارسة الديمقراطية، وكذلك لمواجهة “النزعة العدائية للبرلمان” التي تعمل على تبخيس عمل ومجهود المؤسسة التشريعية، ولا تنظر فقط إلّا إلى النصف الفارغ من الكأس، ولا سيما أنّ البرلمان كان دائمًا حاضرًا ضمن انشغالات المؤسسة الملكية، وفاعلًا عبر التاريخ السياسي، وآلية مؤسساتية لترسيخ التجربة المغربية.
إرسال تعليق