مطاعم ساحة جامع الفنا تبهج العين والمعدة بين “المرقة” و”الحلقة”

“مدينة مراكش بغير ساحة جامع الفنا لا أهمية لها”، عبارة وصف بها الكاتب الإسباني الراحل خوان غويتوسولو عاصمة السياحة بالمملكة المغربية، بفضل ما تتوفر عليه من معالم أثرية وفنادق ومقاه ومطاعم ووسائل نقل وترفيه، وخدمات تجعل السائح يحمل معه إلى بلده ذكريات طيبة عن هذه المدينة المغربية التي تعرف كذلك بطبخها؛ ما يجعل ثمة اعتقادا لدى كثير من السياح بأن أفضل ما في بهجة الجنوب مطاعمها، وأهمها مطاعم الهواء الطلق بساحة جامع الفنا التي توفر مأكولات في متناول الجميع.

يتلألأ ليل ساحة جامع الفنا بالفوانيس التقليدية، يتراقص ضوؤها خلف دخان المشويات من اللحوم والنقانق في المطاعم الشعبية في الهواء الطلق التي تقدم كذلك صنوف الأكل المغربي، من الكسكس والبسطيلة والبقول والسمك والمقليات والمشويات والدجاج والطاجين المغربي والطنجية المراكشية والبيض والبطاطس والحسوة والحريرة، للمسكونين من مغاربة وأجانب بنكهة الأطعمة الأصيلة، في لحظة اختفت فيها أكلة البيصارة وأكلات القطاني وسفافيد الكباب بالكبدة ومشاوي الطحال المعبأ بالرز والتوابل والبهارات.

هذا الانتشار للمطاعم بساحة جامع الفنا يدفع إلى طرح أسئلة عدة من قبيل: هل هو غزو لفضاء كان في الأصل لفنون الفرجة والحكي؟ وهل يمكن اعتبار ما تعرضت له الساحة مسخا لهويتها أم هو تحول طبيعي؟ وهل غزت “المرقة” فضاء “الحلقة” وتحولت اليوم إلى مطعم شعبي كبير مفتوح في الهواء الطلق؟ وبأي معنى سيساهم ذلك في التفريط في رمزيتها وصيتها التاريخي والإنساني الذي بفضله تم الاعتراف بها من قبل منظمة اليونيسكو كتحفة من التراث الشفوي واللامادي للإنسانية؟ أسئلة حملتها هسبريس إلى المثقفين والحرفيين وأهل الحل والعقد للوقوف على تاريخ الوجبات بالمدينة الحمراء والتحولات التي تعرضت لها.

في الأصل كان السوق

“كانت ساحة جامع الفنا في عشرينات القرن الماضي سوقا كبيرا لعرض مواد متنوعة، كالعود والأعشاب والليمون والحلزون والجراد والتبن والمتلاشيات، وكانت الوجبات تعرض في قدور من طين (الخابيات)، وقلي السمك مع السرغيني، ومهدي الكروش بائع “التقلية”، وبا أحماد “مول باولو”، والبيض والبطاطس مع با عمار وبا إبراهيم”، يقول جمال أبو الهدي، المحافظ الجهوي للتراث الثقافي بجهة مراكش أسفي.

وتابع المتحدث نفسه: “كان التجار يحضرون حميرهم وينصبون خيما من دومٍ تُزال بعد انتهاء فترة التسوق، وإلى جانب ذلك كانت الفرجة التي يعود تاريخها إلى عهد السلطان مولاي إسماعيل في القرن 17، على شكل حلقة للمداحين والمسمعين، بالإضافة إلى مروضي الأفاعي في بداية القرن الفارط”.

واسترسل أبو الهدي قائلا: “لالا جميعة رحمة الله عليها كانت تبيع الحسوة بالدشيشة، ومن لم يشرب من يدها لم يشرب شيئا. الهلابا (الأكلات التي تعرض حاليا) والحريرة حديثا العهد؛ إذ لم تظهرا سوى في نهاية ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي، مع التظاهرة العالمية (الكات) التي نظمت بمراكش سنة 1994”.

Ad image

وأورد المحافظ أن “المسافة المخصصة للحلقة كانت أوسع من تلك التي خصصت لوجبات الأكل، لأن الأولى تجذب زوار ساحة جامع الفنا ليستمتعوا بالحكواتي ومروضي الأفاعي والحلقات التي تعرض الموروث الفني المغربي، وبعدها يتناولون طعامهم في الهواء الطلق، لكن الأمر انقلب رأسا على عقب مؤخرا، حيث أصبحت المَرْقة تغزو الفضاء وتهدد استمرار الحلقة”.

القطاني و”تكواحيت”

Ad image

ما جاء على لسان المحافظ أبو الهدي، أكده عبد الغني افليليس، رئيس جمعية رواد ومعلمي الطبخ الأصيل بساحة جامع الفنا، الذي شب وشاب بساحة جامع الفنا، قائلا إن “أكلة تَكْواحيتْ (يقصد كباب الكبد) كانت تنتعش مع ناسْ لَفْضلْ وْالصنايعية، لكن كل هذا التراث أصبح اليوم مهددا بغزو حيتان الصالونات التي أحدثت مؤخرا من طرف مولْ الشّْكارة للاستيلاء على الساحة وتخريب متعتها”، مشيرا بحسرة إلى أن “الحلقة تضمن الوجود للمرقة”.

وتابع: “تاريخ ساحة جامع الفنا لا يباع ولا يشترى، لأنه صنع من طرف لَمعلْمين منذ غابر الأزمان، ومنه استمدت جمالية المكان الذي يشكل مصدر المتعة والأسرار الحضارية التي تنهل من عمق التاريخ، فالفرجة التي يقترحها رواد الحلقة تخترق الزمان إلى فترات سحيقة، والغناء الشعبي والاستعراضي والبهلواني واحد من فنونها، إلى جانب الحكايات التراثية وترويض الأفاعي والقرود، وهذه اللوحة البانورامية لا تكتمل إلا بحَنْطات تعرض أكلا رفيعا تؤكل من أجله الأصابع، وهذا الكوكتيل الأصيل هو ما يثير سرور الزوار من داخل وخارج المغرب، لكن الساحة التي كانت للحلقة والمرْقة، بدأت تفقد جماليتها وتم مسخها بغزو صالونات الهلابا”.

أكلة المسكين

“بيع البيض في ثمانيات القرن الماضي كان يتم بشكل تقليدي وبسيط، حيث كانت تستعمل الصناديق كمقاعد يجلس الزبناء عليها لتناول وجبتهم الطبيعية مائة في المائة، لأنها تتكون من بيض وبطاطس وزيت وكمون وملح”، يروي عبد الواحد الترابي بن عمر في تصريح لهسبريس، مضيفا: “زبائننا متنوعون، منهم الغفير والوزير، وقد دخلت أكلتنا القصر الملكي في عهد المرحوم الحسن الثاني الذي أعجب بها”.

“هذه الأكلة المفضلة بساحة جامع الفنا يتناولها المغربي والأجنبي بثمن ثابت، وهي وجبة يقبل عليها حتى المرضى لأنها تدخل ضمن الوجبات الآمنة صحيا”، يقول محدثنا، مضيفا: “تربينا على شعار غرسه فينا والدنا الذي كان يوصينا بأن نعطي للجائع ليأكل، لكن تغييرا كبيرا طرأ عليها اليوم بعدما غزاها الجبن والكاشير، ورغم ذلك ما زالت تقاوم رغم انشتار بيع البيض والبطاطس بالأسواق المجاورة”.

للحلقة حقها وللمرقة نصيبها

“لا أحد يمكن أن يجادل في دور الحلقة كشرط لوجود المرقة، لذا فالمجال الذي تستغله ما زال كما كان في ستينات القرن الماضي”، يقول يونس بن سليمان، النائب الأول لرئيس المجلس الجماعي رئيس مقاطعة المدينة العتيقة، التي تدخل ساحة جامع الفنا في مجالها الترابي، مضيفا أن “المجال المصبوغ باللون الأحمر مخصص للمرقة صباحا، وللحلقة مساء، وهناك أربع رخص لم يسمح لها بالاستغلال”.

وطمأن بن سليمان المهتمين بساحة جامع الفنا كتراث عالمي من خلال تأكيده ضرورة المحافظة عليها لأنها أصبحت ملكا إنسانيا، وباعتبارها أيقونة المدينة الحمراء، وقال: “إذا كان من يحكي أحمقا، فعلى من ينصت أن يكون عاقلا”، موجها خطابه إلى من يطالبون بتوسيع الساحة من خلال ضمّ جزء من فندق مجاور للملحقة الإدارية للمنطقة توقف عن العمل، لأنه يعود بحسبهم إلى ملكية المجلس الجماعي لمراكش، نافيا ذلك، مؤكدا أن ملكتيه تعود إلى الخواص.