الباحث سوري نبيل علي صالح يكتب عن أزمةُ الغِذاءِ العَالَميّة والعرب

نبيل علي صالح*

اندلعت الحربُ بينَ بلدَيْن هُمَا أوّلُ وخامس مُنتجي القمح في العالَم، فاشتعل العالَم بحثاً دائباً عن القمح (ومشتقّاته) باعتباره جوهر (وقاعدة) الغذاء البشريّ، ولاحظنا كيف بدأت دولٌ ومنظّماتٌ وهيئاتٌ زراعيّة وغير زراعيّة دوليّة تُحذِّر من أنَّ العالَم مُقبلٌ – خلال أقلّ من 8 أسابيع – على كارثةٍ اقتصاديّة دوليّة ومجاعةٍ غذائيّة كبرى ستَلحق بدولٍ كثيرة، بخاصّة تلك التي تستورد القمح ومشتقّاته من أوكرانيا (وعلى رأسها دول عربيّة عديدة كمصر التي تستورد أكثر من 12 مليون طنّ قمحٍ سنويّاً).

حتّى أنّ وزير خارجيّة إيطاليا لويجي دي مايو قال مُحذِّراً إنّ “حرب الخبز العالَميّة” بدأت، حيث تراجعَت إمدادات السلعة الحيويّة على ضوء الحرب، في الوقت الذي تتصاعد فيه – كما قلنا – تحذيرات مؤسّسات الأُمم المُتّحدة والمنظّمات التمويليّة من مخاطر مجاعة جديّة من شأنها أن تُهدِّد الاستقرارَ السياسي في العالَم أجمع.

والسبب الذي سيُفجِّر تلك الكارثة أو المجاعة هو – بحسب كثيرٍ من المُراقبين والسياسيّين – منْع تصدير القمح من أوكرانيا التي تُعتبر أهمّ مَصدر له في العالَم، بما يعني أنّه يجب الابتعاد عن عمليّة تسييس الغذاء، وبدء الإفراج عن مخازين القمح الضخمة في أوكرانيا والسماح بتصديره من الموانئ الأوكرانيّة، حيث يتّهم الاتّحاد الأوروبي – والغرب عموماً – روسيا بمُصادَرة مخزونات الحبوب والآلات الأوكرانيّة، وقصْف مستودعات الحبوب في جميع أنحاء البلاد، وهو أمرٌ تنفيه موسكو، وتُحمِّل الغربَ – وبالأخصّ الولايات المتّحدة – مسؤوليّة الأزمة الغذائيّة العالَميّة، كونه فرضَ عقوباتٍ اقتصاديّة واسعة عليها. وقد أشارت منظّمةُ الأغذية والزراعة للأُمم المتّحدة “فاو” إلى أنّ استمرار الحرب وعدم إيجاد حلولٍ سلميّة لها، سيؤدّي إلى مواصلة أسعار القمح الارتفاع، وأنّه – حتّى مع استمرار الحرب – لا بدّ اليوم من حلولٍ أوّليّة، لفتْح ممرّات التجارة عبر البحر الأسود، حيث “إنّ عدم فتْحِ تلك الموانئ سيؤدّي إلى مجاعة واضْطرابات وهجرة جماعيّة حول العالَم، وحيث إنّ نقص القمح والحبوب الأخرى يُمكن أن يؤثِّر على حوالى 1,4 مليار إنسان في العالَم” (أمين عوض، منسِّق الأُمم المتّحدة المكلَّف بالأزمة الأوكرانيّة).

ويبدو جليّاً – من خلال ما نعايشه من ارتفاع أسعار وغلاء وصعوبة الحصول على الموادّ الغذائيّة – أنّ هذه الحرب عمّقتْ فعلاً أزمة الغذاء العالَميّة، بل جَعَلَتْ بعض الدول المُنتِجة للقمحوالطّاقة (كروسيا مثلاً)، من بين أكبر المُستفيدين من حالة “الفوضى” التي أَحدثها الصراع في قلب أوروبا، وزادته العقوبات الغربيّة تعقيداً؛ إذ واصلتْ روسيا شحنَ قمحِها بالسعر المُرتفع حاليّاً، ووجَدت إقبالاً كبيراً من المُشترين العالَميّين النَّهمين للقمح، ما مكّنها من جني المزيد والكثير من الأرباح (الإيرادات) لكلّ طنٍّ مُصدَّرٍ عبر أراضيها. كما تتوقّعُ روسيا أيضاً وفرة محصول القمح في الموسم المُقبل، ما يشيرُ إلى أنّها ستستمرّ في جني الأرباح من هذه الظروف الصراعيّة.

هذا في الوقت الذي يزداد فيه الوضع سوءاً (لناحية الحاجة إلى القمح بالذّات) في بلدانٍ أخرى مُستهلِكة للغذاء وبالأخصّ منه القمح، حيثُ تأتي جمهوريّة مصر العربيّة في صدارة الدول المُستورِدة للقمح عالَميّاً، إذ تتجاوزُ وارداتها 12,1 مليون طنّ، تليها إندونيسيا 10,4 ملايين طنّ، تركيا 8,1 ملايين طنّ، الجزائر 7,7 ملايين طنّ، بنغلاديش 7,2 ملايين طنّ، نيجيريا 6,6 ملايين طنّ، البرازيل 6,4 ملايين طنّ، الفيليبّين 6,1 ملايين طنّ، اليابان 5,5 ملايين طنّ، المكسيك 4,7 ملايين طنّ.

وتتفاقم الأوضاع الزراعيّة نتيجة الأحوال الجويّة الحارّة والجفاف الذي يلحق الضرر بمحاصيل القمح في غير بلد من العالَم. كما لوحظَ أنّ أسعار القمح العالميّة زادت وقفزت بأكثر من 50% هذا العام (2022). وبلُغةِ الأرقام، جَمعت روسيا حوالى/2/ مليار دولار تقريباً من عائدات ضرائب تصدير القمح حتّى الآن في هذا الموسم، وفقاً لتقديرات شركة الاستشارات الزراعيّة “سوف إيكون”.

الأخطار المُقبلة

وإذا كانت روسيا تستفيد وتَستثمر من هذه الأجواء، كونها من أهمّ بلدان الغذاء والطّاقة في العالَم، فإنّ كثيراً من البلدان العالَم، وعلى رأسها بعض بلداننا العربيّة، تُعاني الأمرَّين للحصول على الغذاء، ومُواجَهة تحدّيات الإطعام والأمن الغذائي، كونها غير مُكتفية ذاتيّاً، وهذا التحدّي حقيقةً هو من أهمّ وأكبر عوامل ودوافع انهيار الدول من داخلها، لأنّه يجعل الأنظمة السياسيّة غير قادرة على تلبية حاجات مُجتمعاتها وأفرادها، ما يَفتح المجال لتفجُّر القلاقل وإشعال الاضْطرابات الاجتماعيّة والسياسيّة، وقد تدفع تلك الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي تمرّ بها بلداننا إلى تحوُّلها إلى بلدانٍ فاشلة لترتمي وتسقطبسهولة في براثن الفشل والفوضى.

Ad image

إنّ بلداننا العربيّة تُواجهُ (عموماً) مآزق كبرى على هذا الصعيد الغذائي (الزراعي عموماً)، لأنّها بمعظمها كما قلنا مُستهلِكة ومُستورِدة للغذاء وعلى رأسه القمح والزيوت (حَصراً من أوكرانيا المَشْهورة بأنّها تُصدِّر 16% من زيوت العالَم وتنتج 3% منها)؛ فبحسب منظّمة “فاو”، تستوردُ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (الأكثر عُرضة للمجاعة وكارثة الإطعام) حوالى 42% من القمح و23% من الزيوت النباتيّة من روسيا وأوكرانيا. وتستورد مصر، ليبيا، لبنان، اليمن، تركيا، تونس، وأرمينيا ما لا يقلّ عن نصف احتياجاتها من القمح والزيوت من أوكرانيا وروسيا، بينما تعتمد العديد من دول المنطقة بشكلٍ مُعتدِل على الواردات من الزيوت النباتيّة من الدولتيْن المُتحاربتَيْن.

لكنْ حتّى الآن لم تتمكّن كثيرٌ من تلك الدول العربيّة من إيجادِ مساراتٍ جديدة لشحْنِ إمداداتِ مادّة القمح أو توريدها من البلدان التي تُنتجها، حيث اتّخذت البلدان المُنتجة قراراتٍ حاسمة بمنْع التصدير لأنّ الداخل أهمّ من الخارج، الأمر الذي صَعَّب جدّاً مسارات الحصول على الإمدادات يوماً تلو الآخر، ما دعا حكومات عربيّة عدّة إلى اتّخاذ إجراءاتٍ داخليّة ضد المُزارِعين والمُنتِجين، تصل إلى حدّ التهديد بمُصادَرة المحاصيل، ما يُنذر بصداماتٍ داخليّة، فضلاً عن طَرْقِ أبواب الدائنين بشكلٍ أكبر، فيما تتوقَّع مؤسّساتٌ دوليّة أن يزداد المشهد تعقُّداً، ليصلَ إلى حدّ إجبار بعض الدول على مُقايَضة ثرواتها بالغذاء، على غرار مصر، الأكثر عرضةً للخطر في المنطقة، والتي أشار تقريرٌ لوكالة “بلومبيرغ” الأميركيّة أخيراً، إلى أنّ صادراتها من الغاز بالتعاوُن مع الكيان الصهيوني ستُعزِّز حصولها على دعْمٍ أميركي وغربي لتفادي الصدمات.

من الواضح أنَّ استمرار مُعاناة كثير من البلدان العربيّة في الحصول على الغذاء وتعزيز مَواردها الزراعيّة عند أيّ مفصل أو منعطف سياسي عالَمي خطير، يدلّ بشكلٍ قاطع على ما تعيشه هذه البلدان من قلّة التدبير وضعف التخطيط المستقبلي في إدارة شؤونها الداخليّة، وأنّها لمْ تتمكّن من بناءِ سياساتٍ اقتصاديّة عقلانيّة عِلميّة صحيحة ورشيدة خاصّة بها، تمنع عنها التبعيّة، وتوفِّر لها مقتضيات العيش، وتَجعلها مُستقلّة في قرارها وسيادتها وغذائها وكسائها. هذا مع العِلم بما يتوافر لدى العرب من مقوّمات الزراعة الحقيقيّة، وافتقارهم إلى إرادة الفعل والعمل على تنميةٍ سياسيّة واقتصاديّة مُتوازِنة ومُستدامَة.

Ad image

إنّ الزراعة والتصنيع الزراعي هُما من أهمّ مجالات النهضة الحقيقيّة لأيّ بلد. فللأرض قيمة مقدَّسة، بل يُمكن القول إنّها “قدس الأقداس” بعد الله، فهي (التي تسمّى بالفرنسيّة طابو أو تابو أي مقدّس)، لكونها تحتوي الإنسان بعد موته، وهو خُلِقَ منها، وفي سيرورته الحياتيّة يعيش منها، أي من مواردها وخيراتها وثرواتها الطبيعيّة، من نفط وماء وغاز ومختلف الزراعات.

نحن بأمسّ الحاجة إلى هذه الأراضي المهجورة، بخاصّة في ظلّ هذا الغلاء الفاحش وتراجُع الاقتصادات العالَميّة، وتكوُّر الدول كلّها – كبيرها وصغيرها – على مصالحها بما قد يؤدّي (وسيؤدّي) إلى عدم تصديرها لمُنتجاتها الزراعيّة من قمح وحبوب وغيرها إلى باقي الدول المُستورِدة، لأنّ المرحلة المقبلة تبدو قاسية وصعبة، فيما يتوقّع كثيرٌ من المُراقبين أنّ ثمّة مجاعاتٍ قادمة ستُهيْمِن وستُلقي بظلالها السوداء على كثيرٍ من الدول، بخاصّة تلك التي تعتمد غذائيّاً وزراعيّاً على غيرها مثل كثير من بلداننا العربيّة (ومنها بلدنا سوريا الذي بات يستورد القمح الذي كان يُنتج منه أكثر من 6 ملايين طنّ سنويّاً خلال تسعينيّات القرن الماضي…).

نعم، يبدو أنّها سنوات طويلة عجاف ستُواجه البشريّة، خسائر ماليّة هائلة وركود اقتصادي كبير متوقَّع، فأين نحن – كعرب – من ذلك كلّه على مستوى الوعي والاستجابة الفاعلة ودرْء المَخاطر وبناء سياسات واعية مكينة؟

ملاحظة أخيرة..

يبدو لي أنَّ فلاحاً بسيطاً ينتمي إلى الأرض ويعشقها، يَفهم ويَعي ويَعرف موضوع الزراعة ومعطياته وأهميّته وطبيعة المستقبل الزراعي، ربّما بشكلٍ أنْجَح وأنْجَع عمليّاً من أيّة كفاءة أو كادر تخصُّصي علمي صَرفتْ عليه الدّولةُ ملايين الملايين ليصبحَ مجرّدَ موظفٍ عادي، يقبعُ في زاويةٍ مُهملة ضمنَ وحدة إرشاديّة، قد لا يُداوم فيها إلّا مرّة في الأسبوع، ويقبضُ راتبه كلّ أوّل شهر، وهو لا يستطيعُ ربّما التفريق بين شتلة البندورة وشتلة الباذنجان…

*باحث وكاتب سوري