لنحرّر عاشوراء من سجون المذهبيّة

قلم الناس : متابعة

عاشوارء ليست حصراً تجييشاً للعواطف بقدر ما هي استفزاز للعقل المنفتح على كلّ مسؤولية من ضمن توليد الرؤية الموحدة للجماعة تجاه قضاياها الحيوية من حرية وعدالة ومساواة وإحقاق للحقوق ومقاومة لأية عملية فرز اجتماعي أو تشتت أو تعصّب مذهبي وفئوي أو عنصرية تلغي كل فرصة للتوحد بالله وبالعقيدة التي تدفع نحو صنع أصالة متجدّدة تتلبس بهموم الناس ونبضهم اليومي وتطلعاتهم؛ فشهادة الحسين نقطة تحوّل مضيئة وجديرة مفتوحة على لغة الزمن في استثارتها لكل مسؤولية تبني وتعطي قوة وتجذّراً للبنيان الاجتماعي الحي المتصالح مع قيمه وثقافته وهويته البناءة التي تصنع وجداناً متفاعلاً مع كل لحظة إحساس بالذات تواجه الخنوع والعبودية الطوعية والنزواء عن صراع الحق والباطل والتفرج من على التل على ما يجري.

شهادة الحسين وأصحابه وعياله كتبت بالدم الشهادة الحية على موت الضمير وانتحار الجماعة عندما تتخلّى عن مسؤولياتها وتدخل في زمن العبثية والنشاط المسفّ الساقط، حيث الخداع والتزييف للحقائق والتلاعب بالعقائد وحبك التحالفات، والاصطفافات السياسية التي همّها تكريس السلطة مهما أمكن ولو كان الثمن تخدير عقول الأمة واستضعافها والتسبّب بضياعها وتمزّقها ما دام الحكّام وزمرهم وأزلامهم من عبيد الدنيا بخير.
الروح الاستنهاضية لكربلاء لم تقبل في قاموسها تلطّياً وراء الأصابع ومجاملة الفاسدين، بل لعنتهم بصوت عال وسعت كي تصنع جيلاً قيادياً صالحاً مسترشداً، وعليه خاطب الحسين يزيداً بنبرة عالية واضحة ملأت أركان السماء والأرض «إنك فاسق فاجر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثلك..»، منبّهاً إلى خطورة فقدان القيادة الصالحة على مصير الأمة، كما لم تقبل التجار والمتلاعبين بحياة الناس ومصائرهم والمتاجرين بكراماتهم وحقوقهم ولم تقبل عهر العصابة الحاكمة، فالحسين صرخ يوماً في رمضاء كربلاء «هيهات منّا الذلة» معلناً للناس جميعاً أهمية العزة والكرامة والإباء في حياة البشر كعناصر أصيلة تُظهر صدق الأمة وإخلاصها وحجم تفاعلها مع قيمها وغاياتها.
لا مكان للغوغائيين والجهال وتجار الهيكل المستغلين لفقر الناس وحاجاتهم، فكلّ مستغل لفاتورة اشتراك الكهرباء وكلّ كارتيل محروقات ودواء وغذاء يقتل الناس عمداً، وكل مقامر بلقمة الناس وجوعهم من تحالف المصارف وأهل السياسة ومن هم في الدولة العميقة وكلّ متآمر على لقمتهم ولقمة أطفالهم المتناغم على سحقهم، وكلّ مهرّب جشع هو ظالم مجرم مستبد يقف في الخندق نفسه مع يزيد وأعوانه بلا فرق ولا ينتمي بتاتاً إلى مدرسة الحسين الشريفة التي تستحثّ الشرفاء من الناس ومن يؤثرون في القرار على الوقوف صفاً واحداً لمواجهة هؤلاء المجرمين وإيقافهم عند حدّهم.
دقّت ساعة التجربة الفعلية لما نحمل من شعارات عريضة وكبيرة ألا يكفي ما نتعرّض له من معاناة على الصعد كافة حتى نقارن بين شعاراتنا وقيمنا وبين ما وصلنا إليه من أوضاع مُزرية حتى نتحرّك بجدية وننتفض بوعي يعيد الحق إلى أهله ونصابه.
صرخ الحسين معلناً عبر الزمن الإصلاح كشعار حمله كل الأنبياء والصالحين في مدى حركتهم مع ما تتطلّبه هذه الحركة من التحلّي بثقافة البذل والتضحية بالأنانيات والمصالح والأهواء من أجل بناء ذاكرة جماعية نظيفة منزّهة عن كلّ دنس مصلحي ّوماديّ هنا أوهناك، فكربلاء مدرسة معرفة وحق ورسالة عزة وإباء ومنبر تثقيف وتراكم للوعي، وهنا تأتي لحظة التجدّد بعاشوراء بالتحلّي بروحها الاستنهاضية في وجه كل استخفاف بالعقول وتعدٍّ على الحقوق والكرامات.
والسؤال الكبير والمحوريّ هنا كيف نواجه الاستبداد والظلم، وكيف نتحلّى بالجرأة الكافية لاجتثاث الفساد والمُفسدين في حياتنا اليوم إذا لم نتكاتف ونتخلّى عن عصبياتنا الطائفية والحزبية والمذهبية؟!
كيف نقيم مجتمعاً ينحو نحو الحقّ لا نحو الانتهازية الرخيصة والتوظيف من أجل مكاسب هنا أو هناك؟

كيف نتناغم نفسانياً مع رسالة عاشوراء الجامعة والعابرة لكل الأديان والطوائف ونحن نحيا في صخب من التشابك المصلحي الديني والسياسي الذي لا حدود واضحة له حيث الإصلاح شبه مستحيل..؟
لطالما شكّلت المقاومة الصورة النابضة التي تعكس عفوية وبساطة حققت الكثير من الإنجازات على العدو شعرنا معها بزهوّ الأنفس حيث لا حسابات ولا تؤطرات ولا تصنّع، بل أصالة تشهد على ترابط عضوي متين قدمت نموذج الإنسان الأصيل غير المصنوع نأمل أن توظف هذه الإنجازات بشفافية وتناسب في خدمة الأهداف الكبرى في صنع مجتمع خالٍ من التناقضات والتنافر والانقسام، مجتمع يحمل بصدق مشاعر الإنسان الذي وعى بحق ما تعنيه مدرسة كربلاء من تواضع وإباء نفس ورفض لكل المغريات الدنيوية والوجاهات والتعالي على الناس.
من جهة ثانية لا مناص اليوم من الانخراط في إنتاج مشروع واضح يستطيع إحداث نوع من الانسجام بين القيم والالتزامات الأخلاقية وبين الواقع المأزوم الذي يضجّ بالسطحية والأهواء، إذ الحاجة الماسة إلى مقاومة من نوع آخر.
نأتي على ذكر طقسنة عاشوراء إلى حدّ مبالغ فيه أحياناً عبر تزخيم الحس الأسطوري وتجيير المخيال الاجتماعي نحو ممارسات تصبح مع مرور الزمن عامل ضغط وتفريغ للمحتوى والقيمة لصالح الشكل المملّ، الذي يخدم مسلسل العبثية البعيدة عن أية رؤية متماسكة لأن بناء الشخصية لا بدّ له من مرتكزات قيمية ومعرفية متجذرة في قلب الحياة والصراع لا تتوسل الشكل دائماً على حساب المضمون، بل يسيران جنباً إلى جنب بحكمة متناهية وبتناغم عقلاني غائي.
المرجع السيد محمد حسين فضل الله ناشدَ على امتداد السنوات الماضية الجميع التعاون من أجل محاصرة مظاهر أسطرة عاشوراء على مستوى مضمون ما يلقى في الخطب والمجالس وعلى مستوى بعض العادات والممارسات والاحتفاليات الشعبية من التطبير وضرب الرؤوس بآلات حادة أو الظهور بالسلاسل وغيرها وإلى إحداث نوع من التوازن بين العاطفة والعقل في ما يخص بالتفاعل مع هذه المناسبة، وقد تعرّض لحملات في حينه وقبله تعرّض السيد محسن الأمين للأمر ذاته.
فما نبتغيه هو الإصلاح الشخصي على مستوى الفرد والجماعة أن يتعود الجميع على التفكير الحر وعلى الاتزان كصفة موضوعية في التفاعل مع أية قضية أو مناسبة لأن الغاية هي الترقي بالإنسان وتراكم وعيه وتجاربه والإفادة الجدية من تاريخه الحضاري.
عانى الشيعة من كيفية التوفيق بين مظلوميتهم وإدارتهم للسلطة كما حصل ويحصل في العراق وغيره، فهل تجربتهم في الحكم يا ترى عكست كل ما كان يجري من تجييش وشعور بالمظلومية؟ هل تحققت العدالة التي نادى بها الحسين؟ هل وجدنا شيئاً من الإصلاح الذي صدح به الحسين في صحراء كربلاء؟ هل تمت محاصرة ما نشاهده من صور العوز والفقر والانسحاق؟
الحسين صوت إلهيّ تخطى كلّ حدود المذهبية له مشروعه الحضاري والإنساني آن الأوان كي نطلق سراحه من سجون أنانياتنا ومذهبيّاتنا إلى فضاءاته الواسعة التي علّمت البشرية معنى العزة والحرية.
ماذا بقي لنا من الحسين اليوم ونحن مثخنون بالجراحات ومثقلون بالعذابات؟ لماذا الجميع متخاذلون عن نصرة الحق والمحرومين؟
حتى الذين يكابدون ويعانون قد استكانوا واستسلموا لعجزهم، ولم يخرجوا مطالبين بإصلاح أوضاعهم واكتفوا بالتذمّر والتأفف بين الجدران.. فيما كربلاء علمتنا النبرة العالية والهمّة والسعي الحثيث نحو الإصلاح مهما كانت التحدّيات والتضحيات، والخروج على الظالمين وإعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية.
فكربلاء بالنهاية فعل حضاريّ إنسانيّ تهدف إلى الدخول في زمن يحيا أهله بشرف وإباء وعزة، فهي تنشد الحياة البهيجة ولم تكن للحظة عاشقة للدم من أجل الدم.. إنها تستحثّنا جميعا أفراداً وجماعات وتنظيمات ومذاهب وطوائف على الوحدة والتكاتف والانفتاح والتعاون ونبذ الفرقة والتخوين والانشقاقات والعصبيات الهوجاء والتوحّد حول لغة التعقل والوعي والحكمة والتوحد بالحسين الذي هو إمام الإنسانية وليس ملك الشيعة أو المسلمين وحدهم.. إنه إمام ثقافة الحياة بحق، فإذا كنا نحب الحياة العزيزة فنحن من أنصار الحسين بشكل أو بآخر.
حاولت عاشوراء الانتقال بالأجيال من حالة الترهل والانكماش بها إلى حالة الأصالة والوقفة الجديرة بالإنسان المخاطب من الله، كربلاء تقول عبر الأجيال كفانا هجرة واغتراباً عن الذات الأصيلة المشبعة بالقيم والمبادئ والأخلاق العملية لصالح تكريس أجواء التسطيح والتسليع في كل مظاهر حياتنا، ما زال العقل الإسلامي الشيعي والسني في بعض تماسه مع قضايا عقيدية وفقهية ذات طابع دوغمائي أو روائية وحديثية، أسيراً للتفاعل غير المعقلن كفاية مع العالم الخارجي بما يضج من أفكار وتصورات وأحداث ومحكوماً بجملة من التراكمات والسياسات والموروثات التاريخية والمذهبية الشبيهة بالأحكام العرفية الدائمة من دون قراءتها عبر آليات معرفية هادفة ومنظّمة ودافعة نحو فعل اجتماعي وإنساني مبدع وملم بروح العصر ومقتحم لميدان ضروريات الحياة وإشكالاتها وتحدياتها.
لقد استشهد الحسين جسداً وكانت لحظة شهادته لحظة ميلاده النورانية المتجدّدة على مدى الدهور، أما نحن فما دامت الثورة على الذات وتغيير الحال لم تبدأ لحظاتها ولو تولد بعد فينا، فإن مشاهد التقهقر ستنتعش أسواقها أكثر فأكثر فهذه سنن التاريخ والحياة مهما حاولنا من إجراء عمليات تجميل وترقيع لواقع مهترئ ومسكون بالشياطين، ولسان حاله أن تعود إليه لغة الملائكة؟
* بقلم محمد عبد الله فضل الله باحث وحوزوي

الاخبار اللبنانية