نور الدين مفتاح يكتب :رمال الصحراء الباردة

نور الدين مفتاح

الذي يمكن أن نستغربه في قرار مجلس الأمن الأخير حول الصحراء المغربية، هو تجاهله التام للخرق الخطير الذي تقوم به جبهة البوليساريو بمعبر الكركرات الحدودي، بحيث تجيش مدنيين مقنعين لقطع الطريق البري بين أقصى جنوبنا في الداخلة وبين موريتانيا.

لقد ضبط المغرب نفسه لحد الآن لأنه فهم أن استفزاز الجبهة الانفصالية اختار توقيتا ماكرا بحيث كان المجلس يتهيأ لإصدار قراره السنوي حول الصحراء ولم تكن الرباط بالسذاجة التي يمكن أن تجعلها تسقط في الفخ.

وخارج هذا الموضوع، يمكن اعتبار قرار مجلس الأمن 2548 امتدادا للقرارات الصادرة منذ طرح المغرب لمشروع الحكم الذاتي. وقد تم التمديد لبعثة المينورسو لسنة كاملة وهي إشارة تطمين بالمقارنة مع قرارات سابقة قلصت مدة التمديد إلى ستة أشهر للضغط على الأطراف من أجل إيجاد حل يكاد يكون مستحيلا إذا كان هناك طرف يعتبر الحل هو في عدم وجود الحل كالجزائر.

إن الكلمات التي كتب بها القرار الأممي تنحو في مجملها إلى الطرح المغربي، ومن التوصيات الـ 16 للقرار نجد أن التوصية الأولى بعد توصية التمديد للبعثة تتحدث عن ضرورة التوصل لحل «سياسي» و«واقعي» و«عملي» و«دائم» على أساس «التوافق». فهل نحتاج إلى نظارات طبيّة لنفهم المعاني الواضحة لهذه الكلمات؟

بالطبع لا فالسياسي تعني التفاوضي والواقعي تذهب مباشرة إلى استبعاد طوباوية خلق دولة جديدة بتزكية من المغرب، والعملي هو كل شيء إلا خيار الاستفتاء بمساطره الغرائبية غير العملية، بحيث لم يتم التوافق على من يحق له التصويت وسجل أكثر من 100 ألف طعن في لوائح المصوتين المحتملين عندما كان مسلسل الاستفتاء جاريا، والدائم هو الذي يتنافى مع ما سبق أن طرحه جيمس بيكر عندما أراد أن يخلق جمهورية صحراوية بتمويل مغربي! واقترح دخول صحراويي تندوف في إطار حكم ذاتي لخمس سنوات يجرى بعدها استفتاء لتقرير المصير. وأما الكلمة الأخيرة فهي التوافق، وهذا المصطلح يمكن أن يكون أي شيء إلا المبارزة أو الاحتكام إلى آلية يكون فيها منتصر ومنهزم، كالاستفتاء مثلا. القرار الأممي يتحدث عن التوافق حول الحل وليس التوافق على الآلية، وهنا بيت القصيد في كل هذه المفاوضات العقيمة التي استنزفت المغرب والمغرب الكبير والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وماتزال.

وحتى عندما تطرق القرار في توصيته الرابعة إلى عبارة تقرير المصير الأثيرة عند إخواننا الجزائريين، فإنها جاءت مربوطة بنفس روح مضامين التوصية الثانية من القرار بحيث يقول مجلس الأمن إن الهدف هو التوصل إلى حل «سياسي» و«عادل» و«دائم» و«مقبول من الطرفين» ثم يأتي الربط التالي: «الذي سينص على تقرير المصير لشعب الصحراء».

إن التفسير الظاهري والمتحجر لتقرير المصير بالنسبة للبوليساريو والجزائر كان دائما هو الانفصال الذي ينعتونه بالاستقلال، في الوقت الذي يعتبر تقرير المصير بابا رحباً لإنهاء نزاع مؤلم بشكل منسجم مع منطوق الأمم المتحدة نفسها، وهو التوافق والحل السياسي وليس مباراة ساخنة فوق رمال باردة من أجل دحر العدو والرقص على جثته من نشوة الانتصار!

ولنفهم سوريالية الخصوم الذين نتواجه معهم في هذا الملف، لا بأس أن نستحضر إقدامهم على إعلان جمهورية صحراوية قبل أن يبت في هذا النزاع. وهي جمهورية تقوم في مخيمات جزائرية، وإبّان الحرب الباردة وجدت لها الجزائر منفذا لتحتل مقعداً في منظمة الوحدة الإفريقية دون أن تكون دولة معترفا بها من طرف الأمم المتحدة. فعن أي حل توافقي أو سياسي أو واقعي أو عادل نتحدث ونحن إزاء محاولة فرض الأمر الواقع باستباق «العرس بليلة» كما يقال؟

أليست التوصية رقم 8 في نفس القرار هي بمثابة جواب على هذه المغربات عندما تقول بأن: «الواقعية وروح التوافق من قبل الأطراف ضرورية لتحقيق تقدم في المفاوضات»؟ لا يمكن بالطوباوية أن نبني حلا لإنهاء نزاع بهذه الآلام وهذا التاريخ الجريح، ولا يمكن بمثل هذه العقليات التي تعتبر الشريط العازل أراضٍ محررة أن نساعد المنتظم الأممي كي ينتهي من هذه القضية المكلفة ماديا وبشريا وإنسانيا ليتفرغ لما هو أهم، ولهذا أعتبر شخصياً أن استمرار النزاع هو مانع موضوعي لأي احتفاء بأي قرار حتى ولو كان في صالح الطرح المغربي، فإخواننا هناك في المخيمات يعانون والجيل الثاني ولد في ظروف تندوف الصعبة والتربية على العداء تراكمت طبقات في النفوس، وإخواننا في الداخل ممزقون، ففي كل بيت صحراوي أو فخدة أو قبيلة هناك جرح فراق وهناك عزيز هنا وغال هناك يفرق بينهم جدار من التعنت والغلو، وربما أحقاد سياسية من الماضي الذي ولَّى هنا ولايزال حيّاً هناك في قصر المرادية.

هذه السبابة التي تتوجه للجزائر منتصبة ليست اجتراراً شخصيا لبروباغندا مغربية مجيشة، بل إنها الحقيقة التي تراها عين مجردة لمتابع مستقل، ولكن ليس مستقيلا عن قضية وحدته الترابية التي يعرف كل مغربي روحها حتى وإن لم ينشغل بتفاصيلها. وربّما في هذه القضية، كانت القوى الحية بالبلاد أكثر تطرفا – إذا جاز هذا التعبير- من الدولة، ولنا في حكاية عبد الرحيم بوعبيد العبرة عندما سجنه الحسن الثاني وهو الشخصية الكاريزمية الوطنية الموقعة على وثيقة الاستقلال بسبب أنه أعلن باسم المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أنه ضد الاستفتاء الذي قبله الملك الراحل في 1981.

إن قضية الصحراء هي قضية المغاربة وليست قضية الدولة وحدها، وهذه قضيّة لا علاقة لها بمستوى التطور الديموقراطي للمملكة ولا بالاختيارات الكبرى للبلاد ولا بالصراعات السياسية المتعددة الأوجه. إنها فوق الجميع بالجميع، أي إنه إذا كان يفرقنا كل شيء مزاجا وتفكيرا وإيديولوجية وسياسة وطبقات وأوضاعا، فإن الصحراء تجمعنا. وهذا هو الدرس البليغ الذي استخلصناه من المسيرة الخضراء حين استطاعت كفكرة وكشكل وكهدف أن تجمع المتعارضين في زمن صعب سمي بسنوات الرصاص.

لقد استرجع المغرب صحراءه في ظروف غاية في الصعوبة والخطورة، وهنا أعود للإخوة في الجزائر لأقول بحسرة الـ «لَوْ»! إنه لو لم يُعاكسنا الجار الشرقي الحالم بالتفوق المغاربي لكان المغرب الكبير غير المغرب الذي نراه الآن، ولكنّا مغاربة وموريتانيين وجزائريين وتوانسة وليبيين نضاهي تجمعات إقليمية كبرى، ولكنا طوينا أشواطا معتبرة في التحول الديموقراطي وأخرى في التكامل الاقتصادي وثالثة في النمو ورابعة في التنمية، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، ما دامت الرياح بيد نفس الطبقة السياسية التي ورثت العقيدة البومدينية تنفخ بها الزوابع في الصحراء، ونحن ننتظر الفرج.

المسيرة الخضراء ابتهاج بذكرى مستحقة لقضية محزنة، ولا يسع المرء إلا أن يدعو بالهداية للأطراف المتصلبة حتى يحتفل المغرب الكبير في يوم قريب بعيد الوئام ورأب الصدع وجمع شمل الصحراويين في بلادهم، لمواصلة البناء بلبنات الحرية المرصوصة بإسمنت الكرامة.