أهم ما قام به الملك محمد السادس، عندما تسلّم، يوم الثلاثاء 25 ماي 2021، نسخة من التقرير العام الذي أعدته اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي، هو أن أمر وزير الداخلية الأسبق شكيب بنموسى، رئيس هذه اللجنة، بنشر هذا التقرير، كما وجّه اللجنة لإجراء عملية واسعة لتقديم أعمالها، وشرح خلاصاتها وتوصياتها للمواطنين ومختلف الفاعلين، بكل جهات المملكة.
ودعا الملك إلى التفاعل الجدي مع خلاصات هذا العمل، وجعلها في خدمة تنمية المغرب ورفاهية مواطنيه.
لنحاول أن نفهم أولا ما هي أسباب نزول هذا النموذج التنموي؟ وما الغاية منه؟
هذا النموذج التنموي أو بعبارة أخرى “البرنامج السياسي الملكي” سيعتبر بمثابة خارطة طريق للحكومات التي ستتعاقب على الحكم خلال العشرين سنة المقبلة.
وهو نموذج تنموي أمر الملك بإعداده بعد أن أعلن هو شخصيًا عن فشل النموذج التنموي الحالي، بيد الحكومات التي رهنت المغرب والمغاربة لعشرين سنة الماضية.
الفشل الذريع لهذه الحكومات في تدبير الشأن العام سبق وأن حذر منه الملك محمد السادس الطبقة السياسية والإدارة في عدة خطابات ملكية استعمل فيها رئيس الدولة عبارات نارية وجّهها الجالس على العرش لمن يعنيهم الأمر، خلال السنوات الأخيرة، تحدث فيها عن العجز والفشل في الاستجابة لانتظارات المواطنين، وغياب الكفاءة والابتكار، والافتقاد لقواعد الحكامة العمومية الجيدة، وعن الفساد الكبير الذي تفشى في الإدارة، وبلغ الغضب الملكي حد وصف بعض موظفيها السامين بـ”خونة الوطن”، واللجوء إلى تفعيل المبدأ الدستوري المتعلق بربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ قام الملك محمد السادس بطردٍ “مُذِل” لخمسة وزراء من الحكومة كان أبرز المطرودين منها وزير “السيادة” في الداخلية السابق محمد حصاد، والخطير أنه بعد طرد الملك لمحمد حصاد من الحكومة كرّمه في المقابل رئيس حزب الحركة الشعبية امحند العنصر وجعله اليوم عضواً بارزًا بمكتبه السياسي.
وهو الشيء نفسه الذي حصل مع وزير الاقتصاد والمالية السابق محمد بوسعيد، أحد خدام الدولة الذي صال وجال على رأس العديد من المؤسسات والمناصب الحساسة، بل إنه كان الآمر الناهي داخل حكومة سعد الدين العثماني والعارف بخبايا وأوجه صرف الصناديق السوداء.
محمد بوسعيد يعتقد أنه “ابن الدار”، بل إنه أوهم محيطه بأنه لا يتصرف إلاّ بالتعليمات الآتية من الفوق، ولهذا عندما نزل قرار الملك محمد السادس بطرده من الفوق “فعلا”، فإن الجميع أصيب بالذهول بعد أن اكتشفوا أن الفوق لا يحابي أحدا “مهما كانت درجته وانتماؤه”.
والخطير، كما سبق القول، أنه في مقابل قرار الملك بنزع الثقة من محمد بوسعيد، سيقرر عزيز أخنوش أن يضع الثقة في هذا الوزير المطرود، إذ عيّنه منسقًا جهويا لحزب الأحرار بأكبر وأقوى جهة في المغرب، جهة الدار البيضاء سطات.
وكلنا يتذكر أن العاصمة الاقتصادية للمغرب عاشت حقبة سوداء في عهد الثلاثي المتكون من بوسعيد نفسه، ومحمد ساجد الذي كان وقتها عمدة للمدينة، وعلال السكروحي الذي كان مديرا لوكالتها الحضرية، وهي حقبة سوداء اضطر الملك محمد السادس أن يخصص لها خطاباً ناريا افتتح به البرلمان، وتحدث فيه بنبرة غاضبة عن حجم الفساد والفقر المذقع والهشاشة التي تعانيها فئات واسعة من سكان الدار البيضاء، فيما ازدادت “حفنة” محظوظة غنى وثراءً فاحشاً.
واعتقد الجميع، عقب هذا الخطاب الملكي الثوري، أن النيابة العامة ستتحرك وستشرع في استدعاء مسؤولي الدار البيضاء ومنتخبيها قصد الاستماع إليهم بخصوص الغنى الفاحش والإثراء اللامبرر، الذي ظهر في عهدهم على العديد من الأسماء التي كانت إلى الأمس القريب لا تملك وجبة عشاء!.
وهكذا أصبح عندنا في الدار البيضاء أغنياء جدد راكموا ثروات عابرة للحدود دون أن يكون لهم ماض مهني ولا مستوى تعليمي ولا جذور عائلية معروفة بذمتها المالية النزيهة.
وليس سراً أن ضمن هؤلاء الأغنياء الجدد أسماء معروفة بسوابقها القضائية وماضيها المخجل في النصب والاحتيال والتزوير والسطو على العقارات وممتلكات الغير…
واليوم، وبعد أن أعلن الملك محمد السادس للمغاربة عن فشل العمدة محمد ساجد في تسيير مدينة الدار البيضاء، وبعد أن قام بتعديل خصصه لإبعاد محمد ساجد من على رأس وزارة السياحة قبل منتصف ولاية العثماني، فإن كل هذا لم يُثنِ محمد ساجد عن أن يكون على رأس حزب، ويخوض الانتخابات المقبلة ضدًا عن هذه الإشارات الملكية المتكررة له.
عندما يقع كل هذا، من قبل أحزاب يفترض أن تكون في صدارة تمثّل الإشارات الملكية، وأن تكون مدرسة للوطنية وللحكامة وللنزاهة وللمصداقية في تمثيل وتأطير المواطنين، ماذا يمكن أن ننتظر سوى تفاقم تأزيم الأوضاع، التي تؤدي أحيانا إلى الانفجار، الذي تتحمّل فيه المسؤولية الأساسية، بفعل تراجعها عن القيام بدورها، وتحوّلها إلى دعامات لحماية والتغطية على الفاسدين والمفسدين، ومكافأة الفاشلين والعاجزين، ثم بعد ذلك تتباكى هذه الأحزاب على عزوف الشباب عن العمل السياسي وعن المشاركة في الانتخابات، في حين أن هؤلاء الشباب لم يعودوا يثقون فيها وفي النخبة السياسية، لأن قادة وأطر بعض هذه الأحزاب هم الذين أفسدوا السياسة وانحرفوا بها عن جوهرها النبيل، ما جعل الجالس على العرش يصارح الشعب بحقيقة هذه الأحزاب، التي وجّه إليها اتهامات ثقيلة، إلى درجة أنه واجههم بسؤال استنكاري خطير: “إذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة، التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟”!
قبل أن يعبّر الملك عن غضبته الكبيرة بكلمة مأثورة ستبقى موشومة في الحقل السياسي والمشهد الحزبي باعتبارها شهادة إدانة لكل السياسيين الذين جعلوا أحزابهم تتخلى عن القيام بدورها النبيل: “لكل هؤلاء أقول: كفى، واتقوا الله في وطنكم…”!!!
وهي الكلمة نفسها التي يرفعها الشعب، اليوم، في وجه السياسيين الفاسدين والمفسدين، الذين كل همّهم هو “تدوير” نفايات الفساد، الذي كان ومازال السبب في كل ما أصاب البلاد والعباد من فقر وقهر وحكرة وخراب، ليقولوا لهم:
كفى من الكذب والتزوير وخداع الناس وطحن المفقّرين…
كفى من الاختباء وراء القصر الملكي، وفي نفس الوقت كفى من معاكسة تطلعات الجالس على العرش..
وبكلمة: إن الشعب يعي اليوم أنه لم يعد هناك مجال للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب…وإياك أعني واسمعي يا جارة!
إرسال تعليق