بدأ شهر رمضان الكريم، وتساءلت: لماذا لا يعمل كثير من المسلمين فى رمضان، ويتكاسلون بحجة الصيام، وينزلون العمل متأخرين ويغادرون مبكرين، ويتجادلون فى الزحام، ويتكالبون على الأكل والحلويات، وما علاقة الصيام بكل ذلك؟!!!
سألنى شاب من الحالمين: ألا ترى معى يا دكتور أن الصيام أصبح حجة لعدم أداء الواجب؟
قلت: أوافقك.
قال: إذا كان الصيام سيعطل موظفًا عن أداء عمله فى خدمة المواطنين، ألا يصح له أن يُفطر ويُيسر على الناس قضاء حوائجهم.
قلت: أوافقك.
قال: وما هذه الترهات عن أسئلة عجيبة وإجابات غبية، مثل هل يفطر دخول الماء إلى الشرج عند التشطيف؟ أليس هذا عبثًا يُقزّم الدين ويشوه الإفتاء؟
قلت: أوافقك، وأتعجب من تفاهة السائل والمسؤول إذا أجاب
قالت فتاة مثقفة وقارئة: لقد قرأت آيات الصيام، وأتساءل عمن كُتب عليهم الصيام قبل الإسلام؟ وهل كان العرب فى الجزيرة يصومون وفى نفس الشهر؟
قلت: حسب علمى حتى المصريون القدماء كانوا يصومون، ونعم كان العرب قبل الإسلام يصومون ويحجون إلى الكعبة.
إن تقديس شهر رمضان ليس عادة إسلامية فقط، لأن العرب كانوا يقدسونه فى القدم، وكان عبدالمطلب جد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، يقدس هذا الشهر ويعظمه ويلزم فيه غار حراء ويتحنث فيه ويتصدق فيه ويطعم الطعام.
كذلك فإن الصابئة، بحسب مصادر التاريخ العربى، كانوا يصومون ثلاثين يوما مبتدئين الشهر بظهور الهلال، ومنهين إياه بظهور هلال الشهر الجديد، وكانوا يُعَيّدون بعد انتهاء الشهر بعيد يسمى أيضًا عيد الفطر، وفى هذا الأمر الكثير من المطابقة مع الصوم الإسلامى.
كذلك كان اليهود يصومون عدة أيام من السنة، حيث كان الصيام بالنسبة لهم تعبيرًا عن الحزن، وكانت معظم الأيام التى يصومون فيها تعتبر حدادًا، كما أنهم كانوا يصومون تكفيرًا للذنوب، فضلًا عن أنهم كانوا يعتقدون أن الصيام يحميهم من وقوع المصائب، والنصارى كذلك لهم أيام محددة ومتفرقة فى السنة يحرصون على صيامها، كما هو الشأن عند المصريين القدامى الذين كانوا يصومون وحددوا أيامًا معينة للصيام.
قالت الشابة: ومن هم الصابئة، لم أسمع عنهم من قبل؟
قلت: لأنكم لا تركزون فى القراءة، فقد ورد ذكر الصابئة وبصورة مستقلة فى القرآن الكريم وفى الآيات الآتية: «سورة البقرة»: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ). وفى «سورة المائدة» ورد: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
أما من هم، فهم مجموعة من المؤمنين بالله الذين يدَّعون أنهم على دين إبراهيم وآدم ولهم عاداتهم القريبة من الإسلام، ومازال لهم وجود حتى الآن.
المهم أن الصيام وُجد بأشكال مختلفة قبل ظهور الإسلام، ويقول الله فى كتابه فى «سورة البقرة»: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
قال الشاب الأول: أخاف أن أقول يا دكتور إن استكمال آيات الصيام حسب فهمى يعطى الإنسان حق الإفطار إذا أراد، على أن يطعم مسكينًا. إذ تقول الآية: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
قلت: أنا أيضًا يحيرنى تفسير (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، لأن الآية بوضوح تعطى الإنسان الحق فى الاختيار ويحفزه بأن خيرًا له أن يصوم، ومع ذلك فإننى أعدك بالبحث والسؤال بشكل أعمق.
وهنا سألتنى المجموعة كلها عما يمكن أن أنصحهم به فى رمضان..
فكرت فيما أقرؤه من فلسفة وعلوم الفيزياء والصوفية ومقارنة الأديان. ثم فكرت فى قضايا خلافية حول موعد رمضان فلكيًا وتعديل الشهور القمرية كل ثلاث سنوات بشهر بلا اسم حتى تأتى شهور الربيع فى الربيع ورمضان فى سبتمبر وأكتوبر والحج فى ديسمبر ويناير كما هو مفروض من دورة الأرض والشمس والنجوم وحركة الكون مما كان العرب الأولون يفعلون وفى بدء التقويم الهجرى.
ثم قلت فى نفسى لا، ليس هذا وقت مناقشات جدلية ولا هز عادات استقرت فى الأذهان، الأفضل أن أنصحهم من القرآن ببعض الحكم الحياتية، كما نفعل فى التعليم، عندما نتكلم عن القيم والمهارات الواجب تطبيقها.
فعدت إلى بحوثى وقلت لهم: إن رمضان فرصة لنا جميعًا، فهو شهر استعدت النفوس فيه للتقرب إلى الله. فلنأخذ من القرآن نصائحه لنا فى ممارسة الحياة ونجعل هذا الشهر بداية لمشروع إنسان أفضل لكل واحد منا.
قالوا: كيف وماذا تقصد؟
إن القرآن نصحنا بالاعتدال فى الحياة، وقال: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا».
إن القرآن الكريم قد ضبط لنا طريقة كلامنا والجهر بأصواتنا، فقال: «فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا». وقال: «وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».
بل إن القرآن الكريم قد ضبط لنا طريقة هذا المشى، سواء كان شكلًا أو مجازًا، فقال: «وَلَا تَمْشِ فِى الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا».
ونصحنا القرآن بعدم التطاول على الآخرين بالنظر، فقال: «وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ».
كذلك قال الله فى قرآنه فى ضبط لظنوننا وأسماعنا: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ»
وفى رمضان، نتذكر قول الله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ».
وقال القرآن أيضًا مذكرنا بأننا لا يصح أن نكذب: «فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ».
وذكرنا القرآن بأن نقول أفضل الكلام للآخرين: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا».
ويعلمنا القرآن ضبط مجالسنا سويًا أو معاملاتنا فى السوشيال ميديا التى جاءت بعده بأكثر من ألف سنة قائلًا: «وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ».
وأمرنا بالصدق فى الكلام: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».
وأضافت صديقتى المثقفة وهى تستمع لحديثى مع الشباب: هل لى أن أضيف إلى ما ذكرته الأخذ بما جاء فى القرآن الكريم من برٍ بالوالدين، وقد جعل الله ذلك قرينًا بالتوحيد بالله: «لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ».
فأضفت قائلًا إن صيام رمضان فرصة لجهاد النفس الذى يعلو قدرًا ويعظم أجرًا عن أى جهاد آخر لو تعلمون.
الأمر بسيط يا شباب، إنها مجموعة من القيم والأفعال التى لو نفذناها والتزمنا بها، لكنا مجتمعًا صالحًا، وقد يكون رمضان شهرًا تُستنفر فيه الهمم لنبدأ عهدًا جديدًا نقول فيه قولًا ميسورًا، ونلتزم بالصدق، ولا نمشى فى الأرض مختالين بأنفسنا ونخفض من أصواتنا ونحترم حرية الآخرين ولا نتجسس ولا يغتب بعضنا بعضًا، ونتأكد مما نقول ونفعل ونتصدق بحب، ولا نسرف فى الأكل فى شهر مفترض فيه الإمساك عن الشهوات، ونقول حسنًا للآخرين ونظن خيرًا فى الناس فيرتفعون لمستوى ظنوننا بهم، ونغض البصر، ونصون أهلنا بفعل الخير دائمًا.
هذه نصائحى إليكم من مدخل القرآن الكريم وكلام الله عز وجل. فلنأخذ المبادرة فى رمضان لنبدأ أو نكمل ما نحن عليه من محاسن الأخلاق.